محمد الخامس

منهج كفاح للتحرير

 

 

 

 

عباس الجراري

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

        ليس سهلاً على الباحث في تاريخ المغرب السياسي والفكري أن يحرر سيرة مختصرة للملك المغفور له محمد بن يوسف، أو يكتب عنه ترجمة مركزة تلم في صحائف معدودة بأبرز ملامح حياته. وهي حياة حاضرةٌ صورتُها المشرقة وخصالها الكريمة في الأذهان والقلوب، ومسطَّرةٌ عطاآتُها الحافلة ومواقفها الجليلة فيما لا يحصى من مؤلفات ودراسات تحددت بها وتعينت معرفة شاملة ومتكاملة لهذه الشخصية الفذة التي غدت عَلَماً على العصر، ورمزاً للوطن دون منازع.       

        وُلد العاهل المنعم يوم الجمعة 23 رجب 1327 هـ، الموافق 10 غشت 1909م، بمدينة فاس التي كانت يومئذ عاصمة المغرب، والتي كان والده المولى يوسف – قبل توليه – خليفة بها للسلطان أخيه المولى عبد الحفيظ الذي تنازل عن العرش في 29 شعبان 1330هـ، الموافق 12 غشت 1912م، بعد أن كان وقَّع عقد الحماية الفرنسية في 30 مارس من العام نفسه. وهو العقد الذي نص في بعض بنوده على تفاوض فرنسا مع اسبانيا، بشأن مصالح هذه الأخيرة ؛ مما أسفر عنه اتفاق في 27 نونبر من هذا العام، دخلت به المنطقة الشمالية تحت الحماية الاسبانية.

        وبعد أن اعتلى الوالد العرش يوم 29 شعبان 1330هـ، الموافق 12 غشت 1912م، في حاضرة الرباط التي أصبحت العاصمة، انتقلت السكنى الملكية إلى الإقامة بقصرها، حيث وجه اهتمامه للأمير الصغير بحفظ القرآن الكريم وتلقِّي جملة من العلوم الشرعية واللسانية، داخل القصر على المعهود في تنشئة الأمراء ؛ إضافة إلى اللغة الفرنسية وبعض المعارف العصرية.

        وقد عاش سيدي محمد هذه الفترة – وقبل مبايعته – حدثين هامين:

        الأول: زواجه في احتفال زفافي كبير أقيم له ولإخوته بمدينة مراكش، وهو في عامه السابع عشر.

        والثاني: مرافقته لوالده في رحلة رسمية إلى باريز، بدأت يوم فاتح محرم 1345هـ، الموافق 1926م. وكان الغرض منها افتتاح المعهد الإسلامي وإلحاق أحباس الحرمين به.

        وعلى إثر وفاة المولى يوسف بفاس يوم الخميس 22 جمادى الأولى 1346هـ، الموافق 17 نونبر 1927م، وبعد دفنه إلى جوار جده المولى عبد الله صبيحة الغد فور أداء صلاة الجمعة، قُدمت البيعة بمشور الدكاكين للسلطان سيدي محمد الذي عاد مباشرة إلى العاصمة. وكان "السلطان" هو اللقب المتداول قبل أن يُستبدل به لقب "الملك" إثر حادث النفي واسترجاع الاستقلال.

        وقد كانت هذه البيعة مفاجأة للذين كانوا ينتظرون تقديمها لأخيه الأكبر المولى إدريس الذي كان عينه والده وليا للعهد. ولعل الذين دفعوا إلى مبايعته، ولا سيما من رجال الحماية وأعوانها، كانوا يظنون أنه لصغر سنه وقلة تجربته، سيكون أداة طيعة في يدهم لتنفيذ ما يرونه ويخططونه. ولكن أبَى الله إلا أن يحبط ما كانوا يرمون إليه، إذ نهج سياسة وطنية نضالية لم تكن تخطر لهم ببال.

        والحق أنه منذ طفولته وأول شبابه، كانت بادية عليه معالم النبوغ والنجابة، وملامح الذكاء والنباهة، مع النظر النافذ والعقل الراجح والقلب الثابت، وكذا لين الطبع وهدوء النفس، في همة عالية وأنفة شماء وتواضع جم، وفي ضمير حي وفكر متحرر يحصنه إيمان متين، وتشبث بالدين في صفائه ونقائه، وتمسك بقيمه وفضائله.

        وهي مكارم زانت قوامه المعتدل ومحياه الذي تعلوه سمات البشاشة والوداعة، وعلامات الحُنو والرأفة، ومخايل حسن الطوية وسلامة السريرة.

        وإن من شأن مثل هذه المحامد حين تضاف إلى الصفات الجهادية التي حبا الله بها جلالة ابن يوسف، أن تجعل منه الملك المصلح، والبطل الذي سيواجه مع شعبه المتفاني في حبه كل تحديات المرحلة، ويحرر الوطن من ربقة الاستعمار.

        ومن ثم فلا عجب – والرائد لا يَكذب أهله – أن يكون أول خطاب فاه به السلطان الشاب إثر مبايعته وعودته من فاس إلى الرباط، مركَّزاً على الآمال التي تعلقها الأمة على جلالته، إذ قال: " إن الشعب المغربي ينتظر منا مجهوداً مستمراً لا من أجل تنمية سعادته المادية وحدها، ولكن لنكفل له الانتفاع من تطور فكري يكون متلائماً مع احترام عقيدته، ويستمد منه الوسائل التي تجعله يرتقي درجة عليا في الحضارة بأكثر ما يمكن من السرعة".

        وإن الدارس ليستشف من هذه الفقرة وغيرها مما تَضمَّنه الخطاب السلطاني، أن جلالته قصد إلى رسم الخطة التي سيسير عليها، إِذْ على الرغم من الوضع الخانق الذي كانت تفرضه الحماية، فإنه حدد لسياسته واجهتين على ما سنوضح: الأولى تؤهل للثانية، بدءاً من إصلاح الذات وتقويتها إلى مواجهة الآخر للتحرر منه.

 

*** *** ***

 

        لقد أدرك بحسه المتيقظ، ونزوعه الإصلاحي، وفي تجاوب مع الفكر السلفي الذي كانت تدعو إليه فئة متنورة من العلماء المغاربة، أنه لا مناص لبلوغ الآمال المرجوة من بث وعي جديد في أبناء شعبه يكون قائماً على عقيدة سليمة من الشوائب التي علِقت بها، والتي كانت تتمثل في ألوان من البدع والانحرافات، كانت المواسم التي تحتضنها الأضرحة باسم الدين مجالاً لإشاعتها وترويج خرافاتها وأباطيلها وما يتصل بها من شعوذة في مظاهر تصوف زائف. فأصدر بهذا الشأن عام 1352هـ، الموافق 1933م، أمراً إلى الطوائف المعْنية يمنعها من كل الممارسات المشينة التي تصادم العقيدة.

        وكان منظوره للإصلاح الجذري يحثه على مواصلة هذا التوجه والتذكير به والإلحاح عليه في عدة مناسبات، وفق ما جاء في خطاب عيد العرش عام 1365هـ، الموافق 1946م، إذ قال: " لما ظهر من طيش من لا يزال يطمح إلى التفريق بالبدعة وإحداث أنكر أسباب الارتزاق بالباطل، جعلنا دون تلك المساعي سداً بالظهير الشريف الذي أصدرناه، والقرار الذي أمرنا بكتابته، مانِعين بذلك إحداث أي طريق في الدين، لما في ذلك من محض الضلال ومهالك الاختلاق ".

        وسداً لأي فراغ يمكن أن يعانيه المجتمع في هذا الصدد، اتجهت همته العالية إلى تشييد العديد من المساجد الجديدة في مختلف المدن، وترميم القديم منها وتوسيعها وتحبيس الكتب عليها. كما أنه ترسيخاً لهذا التوجه السني السليم، عُني بالدروس الحديثية التي كانت تعقد بمحضره وبمشاركة نخبة من العلماء خلال شهر رمضان المعظم، لسرد الحديث النبوي ولا سيما من الصحيحين البخاري ومسلم، مع تقديم الشروح والتحليلات التي يراها ضرورية.

        وكان لا بد في هذا السياق الهادف إلى بث وعي جديد، أن يوجه اهتمامه لتربية النشء وتكوين الأجيال، فأظهر عناية فائقة بالتعليم الذي أنشأ له مجلساً أعلى يجتمع بالأعتاب الشريفة، لمتابعة تطبيق الظهير الشريف المتعلق بذلك، والصادر في 26 من ذي الحجة 1348هـ، الموافق 25 مايو 1930م، وما معه من ضابط مسنون مؤرخ في 10 ذي الحجة 1351هـ، الموافق 1933م.

        وقد مست هذه العناية جميع مستويات التعليم ومراحله، بدءاً من الكُتاب القرآني إلى الجامعة، معتبراً كما جاء في خطاب العرش لعام 1362هـ، الموافق 1943م، أن " أساس النهوض بالبلاد والجد وراء مصلحة العباد الاعتناء بمعاهد العلم ونشر وسائله ".

        وكان قد بدأ بإعادة النظر في جامعة القرويين، سواء في برامج دروسها، أو نظام امتحاناتها، أو مقتضيات مُدرسيها، حتى " تكون جامعة للكلمة، مهذبة للأمة، حاملة راية الإصلاح، داعية إلى أسباب الفلاح "، وفق ما وضح في خطاب العرش عام 1360هـ، الموافق 1941م. وتعزيزاً لهذه الجامعة القروية، كان قد أمر عام 57هـ، الموافق 38م، بإنشاء مؤسسة جامعية في مراكش تنتسب لابن يوسف. ثم لم يلبث أن أقام معاهد مماثلة لها في بعض المدن ؛ مع العمل على تعميم الحلقات العلمية في جميع المساجد، بناء على برامـج مضبوطـة ومقررات محددة.

        أما الكتاتيب القرآنية وما يتصل بتنظيمها وتطويرها وتفتيشها وتطعيمها ببرامج دراسية وتخصيص بعضها للبنات، مع تقديم منح للمدرّرين ومن إليهم من "الفقيهات"، فقد أصدر بشأنها ظهيراً مؤرخاً في 7 شوال 1356هـ، الموافق 1937م. ولم يغفل عن بعض الكتاتيب التدجيلية التي كانت تتستر خلف تعليم القرآن الكريم فأمر بإغلاقها.

        ولم يكن غريباً بمنظوره التجديدي للتعليم، أن تتحول كتاتيب كثيرة إلى مدارس عربية منظمة كانت في أول أمرها ابتدائية، ثم تطورت لتحتضن الدراسة الإعدادية والثانوية ؛ إضافة إلى ما كانت تنهض به من دروس مسائية لمحو الأمية مفتوحة للعموم.

        ومن حَدَب السلطان المربي على هذا التعليم "الحر" الذي كانت الحركة الوطنية تساعد على النهوض به، لم يفتأ يساهم في تمويل منشآته ووضع حجرها الأساس، وتدشينها وحضور حفلاتها وإلقاء الخطب فيها ومنحها اسمه الشريف. وحين لا يتسنى له ذلك بشخصه، فإنه ينيب عنه أنجاله أصحاب السمو الأمراء والأميرات ؛ وكان قد أنشأ لدراستهم المعهد السلطاني الذي دشنه يوم 3 محرم 1361هـ، الموافق 20 يناير 1942م.

        وإلى جانب رعايته المباشرة للتعليم الحر الذي أثمر الكثير، عُني بإحداث مدارس عصرية للفتيات، والإشراف التربوي المباشر عليها، مع العناية الفائقة باختيار معلميها الذين كانت تُجرى لتعيينهم مباراة في المشور السعيد.

        على أن الاهتمام الملكي لم يقف عند هذا الحد، بل تعداه إلى احتضان أول بعثة مغربية للدراسة في فرنسا وجهها على نفقته الخاصة عام 1364هـ، الموافق 1945م.

        وموازاة لهذه النهضة التعليمية، واعتباراً لإحدى أهم أدواتها – وهي الكتب – فقد أولى اهتماماً خاصاً بتأليفها ؛ مع التركيز على بعض المواد كالتاريخ والجغرافيا والسيرة النبوية.

        وتفعيلاً لهذا الاهتمام، أسس لجنة ملكية. ورغبة منه في إظهار عملها، أنشأ مطبعة قال عنها في خطاب العرش لعام 1362هـ، الموافق 1943م، إنها ستسهل " وسائل التعليم وتكثر فوائده، إذ يمكن بها طبع كل الكتب المدرسية التي نتوقف عليها في كل طبقات التعليم الإسلامي. كما يتسنى طبع ما يؤلفه علماء الوقت في مختلف الأبحاث والفنون. وسنشكل لجنة خاصة لاختيار التآليف القديمة الموجودة في خزانات الكتب المغربية لنقوم بطبعها ".

        كما أنه إلى جانب اللجنة المذكورة، كوَّن لجنة أخرى موسعة، للنظر في المقررات الدراسية، كانت تضم ثمانية عشر عضواً من بين المهتمين بقضايا التعليم. وقد عقدت اللجنة أول اجتماع لها بدار المخزن يوم 17 محرم 1364هـ، الموافق 2 يناير عام 1945م.

        في ظل هذه النهضة التعليمية والعلمية المباركة، كان لا بد للإبداع الأدبي أن يتفتح وينطلق، على الرغم من ظروف الحماية القاسية ومنعها للحريات، ولا سيما ما يمس التعبير. وكانت المناسبات الدينية والوطنية التي يرعاها جلالته فرصة للكتاب والشعراء كي يكسروا طوق الحِجْر المفروض، وأهمها الاحتفال بذكرى المولد النبوي وعيد العرش.

 

*** *** ***

 

        انطلاقاً من هذه المنجزات الإصلاحية الداخلية وما نتج عنها من نهوض فكري كبير، تولد وعي وطني جديد يدفع بقوة وحماس لمواجهة تحديات المرحلة والسعي إلى رفعها بجد وشجاعة. وكانت مركَّزة على ضرورة التحرر من الاستعمار، في وقت كانت الآمال معلقة على السلطان الشاب، مع الحرص على مواكبته في مسيره الشائك وهو يخطو فيه بحزم وعزم وثبات وإصرار، ولكن كذلك برزانة واتزان وحكمة وصبر.

        وهكذا ومباشرة بعد توليه، ستواجهه وقائع وأحداث كان دوماً يدبر أمرها بسياسة سلمية هادئة تسعى إلى تحقيق المكاسب المرجوة بأقل ما يكون من الخسائر التي قد يتكبدها الشعب أمام قوى الاستعمار الطاغية وجبروت مقيميه العامين ومن معهم من الأعوان.

        من هذه الوقائع حادث الظهير البربري الذي صدر بالجريدة الرسمية في 16 مايو 1930م، والذي كان يرمي إلى إنشاء محاكم عرفية يتقاضى إليها السكان الأمازيغ تعتمد الأعراف والتقاليد، بعيداً عن أحكام الشرع الإسلامي. وقد وُوجه بمعارضة شعبية شديدة وقف منها جلالته موقفا إيجابيا جعله يمتنع بعد ذلك من توقيع ما يقدم له من ظهائر. وهو ما أزعج إدارة الحماية وجعلها تتعامل معه بحذر شديد، متوقعة ما قد يصدر عنه من سلوك وطني لن يكون وفق ما ترضاه.

        وفي عام 1353هـ، الموافق 1934م، قدمت له الكتلة الوطنية التي كانت قد تأسست عاماً من قبل "مطالب الشعب" التي أيدها، ولا سيما أن النشاط السياسي الحزبي على امتداد فترة الكفاح الوطني كان يتم بتشاور وتنسيق سريين معه في الغالب، وهنا يشار إلى "دفتر المطالب المغربية" وكذلك "المطالب المستعجلة". وهما مما كان صدر عن الكتلة سنة 1936م، قبل أن تُحل في العام الموالي ليطلق عليها اسم "الحركة الوطنية لتحقيق المطالب"، ثم ليعلن في العام نفسه عن تكوين حزبين في المنطقة الجنوبية التي كانت تحت الحماية الفرنسية، أولهما "الحزب الوطني لتحقيق المطالب" الذي سيصبح فيما بعد "حزب الاستقلال" برئاسة علال الفاسي ؛ والثاني "الحركة القومية" التي سيتحول اسمها إلى "حزب الشورى والاستقلال" بإشراف محمد ابن الحسن الوزاني. أما في الشمال الذي كان تحت الحماية الاسبانية، فقد أُعلن عن ميثاق وطني وتأليف جبهة من حركة "الوحدة المغربية" التي أسسها محمد المكي الناصري، و"حزب الإصلاح الوطني" بزعامة عبد الخالق الطريس.

        وكانت قد وقعت في هذا العام، وبالضبط في 4 يناير منه، احتجاجات على إحداث ضرائب جديدة على الأسواق وتجار المواد الأساسية. كما وقعت اعتقالات في صفوف الوطنيين من مختلف المدن والأقاليم، خاصة بعد حوادث "بوفكران" التي عرفتها مدينة مكناس، دفاعاً عن الماء، ابتداء من 2 شتنبر، والتي أعقبتها في اليومين 24 و 25 من الشهر نفسه حوادث في مراكش نتيجة تقديم الصناع بعض المطالب، مما ظهر معه تأييد كبير على مستوى المغرب كله.

        وعلى الرغم من كل هذه المعاناة التي زاد في تأثيرها إجراء عملية جراحية للعاهل المفدى، أبى الله إلا أن تكلل بالنجاح، وذلك أواخر 1356هـ، الموافق 1938م، فإنه حين نشبت الحرب العالمية الثانية في 3 شتنبر 1939م، وظهرت حاجة فرنسا إلى المغرب لمؤازرتها وإلى سواعد أبنائه للدفاع عن حريتها، لم يتأخر جلالته في اتخاذ موقف مساند.

        ومكافأة على هذا الموقف المشرف، وُعد السلطان باستقلال المغرب، وهو الوعد الذي أعرب عنه الرئيس الأمريكي روزفلت خلال مؤتمر أنفا الذي انعقد بالدار البيضاء يوم 17 يناير 1943م، بحضور تشرشل والمقيم العام نوجيس وولي العهد يومئذ جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله. وكانت جيوش الحلفاء قد نزلت بالمغرب قبل ذلك في 8 نونبر 1942م، على إثر انتهاء الحرب.

        إلا أن هذا الوعد لم يتحقق، وظهرت على العكس أجواء تنذر بسياسة عنيفة، بعد أن عُين جبرييل بيو مقيماً عاماً جديداً، وكان معروفاً بالتشدد الذي مارسه من قبل في لبنان.

        وكان لا بد لهذا الواقع أن يتفجر بإعلان "المطالبة بالاستقلال" وتقديم وثيقتها يوم الثلاثاء 14 محرم 1363هـ، الموافق 11 يناير 1944م، باسم حزب الاستقلال، وكذا وثيقة أخرى باسم "الحركة القومية".

        ومع هذا التقديم، بدأت تتوالى الوفود التي كان ابن يوسف يستقبلها ويخطب فيها، وفق ما فاه به يوم 30 محرم الموافق 17 يناير من العام نفسه، مؤكداً لها ما يطمح إليه المغرب من استقلال، ومنبهاً إلى ضرورة سلوك طريق السلم لنيله.

        وفي اجتماعين تم عقدهما في هذا الشأن بالقصر الملكي في الرباط، يوم 28 يناير بين جلالته ومندوب الخارجية الفرنسية والمقيم العام، تبين للأسف أن فرنسا مصممة على بقاء الحماية. فكان أن شنت حملة اعتقالات مما أدى في اليوم الموالي إلى إضراب عام وخروج الجماهير الرباطية في مظاهرة كبيرة اتجهت إلى القصر الملكي، منددة بهذه الاعتقالات ومطالبة بإطلاق سراح الوطنِيَيْن البارزين محمد اليزيدي والحاج أحمد بلا فريج.

        وكان لتدخل العاهل الكريم أثر في تخفيف حدة الأزمة وإطلاق سراح اليزيدي، والتعهد بإطلاق بلا فريج ؛ مع الدعوة إلى التزام الهدوء والسكينة وضبط النفس. إلا أن القوات الفرنسية ما لبثت أن طوقت العاصمة، وحالت دون التحاق الناس بالجامع الأعظم لأداء صلاة عصر هذا اليوم. فكان أن وقعت أحداث دامية نتج عنها استشهاد ضحايا، ومحاكمة عدد من المصلين.

        ومن مظاهر اشتداد الأزمة الذي بلغ حد تهديد السلطان، أن المقيم ﮔابرييل بيو سأله في لقاء به هذا اليوم:

        - هل أنتم مع فرنسا أم ضدها ؟

        فأجابه:

-       أنا لست ضد فرنسا كما تعرف أنت ذلك، ولكني أقف مع حرية شعبي واستقلال بلدي.

 

        وإذ اتضح لحكومة الحماية عدم جدوى هذه السياسة العنيفة، ورغبة منها في تخفيف حدتها، وجهت لسيدي محمد دعوة لزيارة فرنسا بمناسبة الاحتفال يوم 18 يونيو 1945م بالذكرى الخامسة للنداء التاريخي الذي وجهه دوﮔول إلى الشعب الفرنسي. وقد تميزت هذه الرحلة بتوشيح جلالته بوسام التحرير اعترافاً بما قدمه لفرنسا أثناء المحنة.

        كما عمدت في 30 مارس 1946م، إلى تعيين مقيم عام جديد هو إيريك لابون. فكان من نتائج ذلك أن قام العاهل برحلة طنجة يوم 10 أبريل 1947م، على الرغم من الأحداث التي سعت إلى عرقلتها، والتي وقعت بالدار البيضاء قبل بدء الرحلة بثلاثة أيام.

        وعلى الرغم من أنه كان قد قام بزيارات لعدة مدن وأقاليم، على نحو رحلة الدار البيضاء (1934)، ومكناس والصويرة (1936)، ومراكش (1937)، وفاس (1940)، وتافيلالت (1941)، ووجدة (1943)، وسوس (1945) وغيرها، مع تكرار الزيارة لبعضها، بقصد تفقد أحوال السكان وتدشين منشآت دينية وتعليمية واجتماعية، فقد اعتبرت رحلة طنجة حدثا متفرداً بحكم الوضعية الدولية التي كانت لهذه المدينة، والتي أتاحت لجلالته أن يستقبل ممثلي الدول الأجنبية وغيرهم من المسؤولين، وأن يطلعهم على مطامح الشعب المغربي.

        وإثر ذلك ألقى في الجماهير خطابه المشهور الذي أكد فيه أنه: " إذا كان ضياع الحق في سكوت أهله عنه، فما ضاع حق من ورائه طالب. إن حق الأمة المغربية لا يضيع ولن يضيع ".

        وكان من أهم ما جاء في هذا الخطاب التاريخي حديثه عن الجامعة العربية " التي متنت العلاقات بين العرب أينما كانوا، ومكنت ملوكهم ورؤساءهم في الشرق وفي الغرب من توحيد خطتهم وتوجيه سيرهم نحو الهداية الدينية والعزة الإسلامية والكرامة العربية ".

        وتجدر الإشارة إلى أن هذه الرحلة تعززت بزيارة أصيلة، وكذا باستقبال الوفود التي جاءت من تطوان والقصر الكبير ومختلف أنحاء المنطقة الشمالية، وتميزت بوضع الحجر الأساسي لعدد من المؤسسات التعليمية، وتدشين أخرى، وغيرها من المنشآت الدينية والاجتماعية. كما تميزت بالأنشطة التعليمية والثقافية التي كانت لولي عهده ولكريمته للاعائشة.

        ونظراً لأهمية هذه الرحلة على الصعيد الداخلي والخارجي وما كان لها من سوء وقْع في إدارة الحماية، فإنه ما كان السلطان يعود منها حتى بدأت حملة تسميم للأجواء بإصدار نشرات ضد شخصه الكريم. كما كان تعيين الجنرال جوان في مايو من العام نفسه مقيماً عاماً، باقتراح من جورج بيدو وزير الخارجية إذ ذاك، منذراً بما ستؤول إليه المرحلة. وهو ما ينم عنه تصريح رئيس الحكومة رامَادْيي الذي قال في اجتماع مجلس الوزراء مبرراً هذا التعيين: " إن السلطان الذي هو رجل سياسة كبير سيفهم وينبغي أن يفهم أنه يمكن عزله من قبل فرنسا. لذلك يحتاج إلى عسكري ".

        وقد اتسمت فترة هذا المقيم بالتعنت والتصلب ومحاولة فرض بعض الإصلاحات، على نحو ما كان يرومه من تنظيم البلديات وإجراء انتخابات بشأنها تمنح للفرنسيين بمقتضاها تمثيلية متساوية مع المغاربة. وهو ما رفضه سيدي محمد، وامتنع عن توقيع الظهير الخاص به.

        في هذا الجو المشحون، تلقى جلالته دعوة لزيارة فرنسا من رئيس جمهوريتها ڤنسان أُورْيول. وهي الزيارة التي تمت في أكتوبر 1950م، والتي اغتنمها لتقديم مذكرة بمطالب المغرب المشروعة. إلا أن هذه المذكرة لم تلق الرد الملائم. بل كان أن أمعنت إدارة الحماية في سلوكها المتشدد، فأحدثت في دجنبر من هذا العام "مجلس شورى المقيم" الذي طرد منه بعض الوطنيين، واضطر آخرون إلى الانسحاب منه.

        وبلغ هذا السلوك أوجه بكثرة الاعتقالات في صفوف رجال الحركة الوطنية، وكذا بتهديد السلطان – إن هو لم يتخل عنهم – أن يتنازل عن العرش أو يخلع إذا لم يتنازل.

        وإعداداً لهذا المخطط الاستعماري، عينت فرنسا مقيماً عاماً عسكرياً آخر في أكتوبر من العام نفسه، هو الجنرال ﮔيوم الذي تأكد في أول لقاء له مع العاهل مدى إصرار جلالته على موقفه. فقد قال له: " قد يكون التمسك بالمبدأ عيباً في نظر بعض الناس، ولكنه شرف عندنا ".

        وبعد نحو شهر من هذا التعيين، جاء خطاب العرش ليؤكد قوة هذا الإصرار و " الثبات على المبدأ والمثابرة والصبر والمصابرة. فبدون كد واجتهاد لا يرجى أدنى إصلاح ولا ينال فوز ولا فلاح "، إذ " جرت سنة الله في خلقه بامتحان الأنبياء والصديقين وفتنة المخلصين والمصلحين ليبلوهم أيهم أحسن عملاً. قال تعالى: " أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ". وكانت الأزمة قد اشتدت في فبراير 1951م، على إثر رفض السلطان لطلب المقيم العام بقطع علاقته مع الوطنيين.

        في سياق هذه الوضعية، سارعت الدول العربية إلى عرض المسألة المغربية على الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، تعززها باقي الدول الإسلامية وغيرها في مساندة المغرب وتأييده في تطلعه للاستقلال. وهو ما اتخذته فرنسا ذريعة لاتهام ابن يوسف بالاستنجاد بالخارج.

        ومواصلة من جلالته لمحاولات تجاوز الأزمة التي لم تكن تزيد إلا احتداداً، رفع في 15 مارس 1952م مذكرة جديدة إلى رئيس الجمهورية الفرنسية ڤنسان أُورْيول، بواسطة المقيم العام، يقترح فيها إقامة علاقات بين البلدين على أساس معاهدة صداقة بدل معاهدة الحماية، تضمن للمغرب حريته وسيادته، مع ما يقتضي ذلك من تشكيل حكومة مغربية تتولى المفاوضة بهذا الشأن. إلا أن الجواب الفرنسي جاء بالرفض، زاعماً أن الإصلاحات ينبغي أن تبدأ من الأسفل لا من الأعلى، أي بتكوين مجالس وجماعات مختلطة.

        فما كان من العاهل إلا أن وجه مذكرة أخرى تؤكد موقفه. ثم جاء خطاب عيد العرش لهذا العام (1952م)، ليعلن بصراحة لا وضوح بعدها ولا مزيد عليها أن "مثل الحماية كمثل قميص جعل لطفل صغير فكبر الطفل ونما وترعرع وبقي القميص على حاله".

        ولا عجب، فقد كان هذا العيد الذي وصف بـ "الفِضِّي" مناسبة متميزة بمظاهر شتى أعرب عنها المغاربة، دالة على مدى عمق المشاعر والأحاسيس الوطنية، وشحذ العزائم والأفكار، وتقوية الإجماع، والتفاف الشعب بمختلف هيآته وفئاته حول شخص سيدي محمد الذي غدا البطل القائد لمسيرة التحرير، والرمز الأسمى للوطنية والنضال، والمكافح المستعد للتضحية بنفسه في سبيل إسعاد أمته وتحقيق رغبتها في الاستقلال.

        في هذا الظرف العصيب، وقد زادت حدة التوتر التي أدت إليها الأحداث المتلاحقة، اقترحت إدارة الحماية إصلاحات تقوم على إحياء الجماعات والمجالس المحلية للقبائل، مما كان أُلغي قبل. كما أخذت في الإعداد لحركة الباشوات والقواد، تمهيداً لتنفيذ خطة الخلع التي سبق التلميح إليها، والتي ما كاد يشيع خبرها حتى هبت الجماهير إلى التظاهر، إعلاناً عن احتجاجها، وتعبيراً عن التفافها حول عاهلها المجاهد.

        وعلى إثر المظاهرة الكبيرة التي انطلقت في الرباط يوم 15 غشت 1953م، أصدرت إدارة الحماية بلاغاً يخبر بأن جلالته قد وقع الظهائر المتوقفة. وفي الوقت ذاته، تم الإخبار بتنصيب محمد بن عرفة في مدينة مراكش بحضور المقيم العام، سلطاناً على المغرب، وفق اختيار الباشوات والقواد الذين كان يتزعمهم التهامي الـﮔلاوي.

        فما كان من الشعب الغاضب إلا أن لجأ إلى مزيد من التظاهر والتجمع في المساجد لتلاوة القرآن الكريم وقراءة اللطيف. وكان واضحاً أن الأزمة بلغت أشدها، منذرة بما سيحدث بعد ظهر يوم السبت 9 من ذي الحجة 1372هـ، الموافق 20 غشت 1953م، على الساعة الواحدة والنصف. فقد فاجأ الجنرال ﮔيوم جلالة ابن يوسف في قصره بعد أن طوقه بقوات عسكرية هائلة كانت فرقها تحاصر العاصمة، وطلب منه أن يتنازل عن العرش، وإِلاَّ كان مآله النفي. وهو ما يكشفه الحوار الذي أورده ولي عهده يومئذ جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله في كتابه "التحدي" على هذا النحو:

-       إن الحكومة الفرنسية لدواعي الأمن تطلب منكم التنازل عن العرش، فإذا قبلتم ذلك عن طيبة خاطر، استطعتم أنتم وأسرتكم أن تقيموا في فرنسا أحراراً معززين مكرمين.

-       ما من شيء في أعمالي وأقوالي يبرر أن أتخلى عن أمانة أضطلع بأعبائها بصفة مشروعة. وإذا كانت الحكومة الفرنسية تعتبر أن الدفاع عن الحرية والشعب بمثابة جريمة تعاقب عليها، فإني أعتبرها فضيلة يفاخر بها وتورث صاحبها المجد.

-       إذا لم تتنازلوا حالاً عن العرش بالرضى، فإني مكلف بإبعادكم عن البلاد صيانة للأمن.

-       إني ملك المغرب الشرعي، ولن أخون أبداً الأمانة التي ائتمنني عليها شعبي الوفي المخلص. إن فرنسا قوية فلتفعل ما تشاء.

        وفور إنهاء هذا الحوار مباشرة، سيق بطل التحرير وأسرته إلى المنفى في كورسيكا ثم مدغشقر. وهو حادث زاد في إلهاب مشاعر الشعب المتعاطف مع قائده. فبالإضافة إلى مختلف الأشكال الاحتجاجية، من إضرابات، وتقديم العرائض، ومقاطعة بعض السلع، وتجمعات المساجد، ومظاهرات تنادي الجماهير فيها بـ "ابن يوسف إلى عرشه" وتواجَه بالعنف والتنكيل، فتح مجال جديد للمقاومة التي عُرفت يومئذ بحركة "الفداء". وكانت قد بدأت متجلية في عمليات كثيرة ومتنوعة، كان من أهمها ما قام به الشهيد علال بنعبد الله الذي تصدى لابن عرفة بخنجر طعنه به وهو متوجه لأول مرة بعد تنصيبه إلى مسجد أهل فاس في مشور توارﮔـة بالرباط لأداء صلاة الجمعة، يوم فاتح محرم 1373هـ، الموافق 11 شتنبر 1953م، وجعله يعود إلى القصر مدرجاً بالدماء.

        ومن المنفى الذي سعد السلطان المناضل فيه يوم الأربعاء 10 شعبان 1373هـ، الموافق 14 أبريل 1954م بمولودة أكملت عقد أنجاله، مبشرة بفجر جديد، هي سمو الأميرة للاأمينة، كان يتابع مجريات الأحداث وينتهز كل فرصة لمزيد من التواصل مع شعبه، وحثه على متابعة الكفاح بصبر وثبات، على نحو ما يظهر من الخطاب الذي وجهه من مدغشقر في 18 نونبر 1953م بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لجلوسه على العرش، والذي جاء فيه:    " أيها الشعب الوفي، إن شعورنا بالواجب وبقداسة الرسالة الملقاة على عاتقنا نحو الوطن العزيز وما ألهمنا الله به من ثبات ومصابرة، كل ذلك جعلنا نستهين بالصعاب ونتحمل الشدائد ونضحي بكل شيء في سبيل تحقيق ما تصبو إليه البلاد من عزة وكرامة وحرية ".

 

*** *** ***

 

        وما أن انقشعت الأزمة بعودة الملك من المنفى يحمل بشرى بزوغ فجر الحرية والاستقلال، يوم الأربعاء فاتح ربيع الثاني 1375هـ، الموافق 16 نونبر 1955م، حتى بدأت مرحلة جديدة استهلت بإطلاق سراح جميع الوطنيين المعتقلين، ثم بتأسيس الحكومة الأولى برئاسة امبارك البكاي يوم الأربعاء 22 ربيع الثاني الموافق 7 دجنبر من هذا العام، وكذا بتدشين المفاوضات التي أجراها جلالته في فرنسا مع رئيس جمهوريتها روني كوتي، ابتداء من يوم الأربعاء 3 رجب 1375هـ، الموافق 15 فبراير 1956م، والتي أفضت إلى التوقيع على وثيقة الاستقلال في 19 رجب 1375هـ، الموافق 2 مارس 1956م. ومثلها المفاوضات التي بدأها مع اسبانيا بمدريد يوم الخميس 23 شعبان الموافق 5 أبريل من العام نفسه. وكان القصد منها جميعاً بلورة مقتضيات الاستقلال وإثارة كل المشاكل العالقة، وعلى رأسها وحدة التراب الوطني.

        وبعد ذلك، تم تكوين القوات المسلحة الملكية التي كان انضم إليها عدد من قادة جيش التحرير وأعضائه. وقد جرى أول استعراض لها في الرباط يوم السبت 14 مايو 1956م.

        وإيماناً من الملك المحرر بالديمقراطية وتنظيم الحكم على أساس ملكية دستورية كان ينادي بها في خطبه، فقد عمل جلالته على إنشاء المجلس الوطني الاستشاري الذي أصدر به ظهيراً شريفاً في 25 من ذي الحجة 1375هـ، الموافق 3 غشت 1956م، والذي افتتح أولى جلساته بالرباط في 8 ربيع الثاني 1376هـ، الموافق 12 نونبر 1956م.

        ثم أتبع ذلك بإصدار قانون الحريات العامة في 2 جمادى الأولى 1378هـ، الموافق فاتح نونبر 1958م، وكذا قانون الانتخابات بظهير شريف مؤرخ في 27 صفر 1379هـ، الموافق فاتح شتنبر 1959م، ونظام المجالس البلدية والقروية في 28 من ذي الحجة 1379هـ، الموافق 23 يونيو 1960م، قبل أن يعلن عن تعيين مجلس تأسيسي لإعداد مشروع الدستور يوم 4 ربيع الأول 1380هـ، الموافق 2 غشت 1960م، وكان قد صدر به ظهير شريف مؤرخ في 13 جمادى الأولى 1380هـ، الموافق 3 نونبر 1960م.

        وإذا كان من الصعب في هذه الترجمة الوجيزة استعراض المنجزات العديدة التي تمت على مدى السنوات الخمس التي عاشها جلالة الملك محمد بن يوسف في ظل الاستقلال، وكذا المشكلات التي اعترضته خلال هذه الفترة، فإنه لا مناص من الإشارة إلى أهمها:

        فعلى الصعيد الداخلي، كان مضطراً إلى مواجهة بعض مظاهر العصيان، كحركة عدِّي وبِيهِي في يناير 1957م، وإلى رد بعض الاعتداآت الأجنبية مثل ما وقع إثر الهجوم الإسباني على سيدي يفني المحتل في نونبر من هذا العام، وكذا أزمة الريف التي عاشها المغرب في يناير 1959م، والمناوشات العسكرية الاستعمارية المتكررة في بعض المناطق الحدودية ولا سيما الشرقية. تضاف إلى هذه المشكلات معاناة الزلزال العنيف الذي أصاب مدينة أﮔادير يوم الاثنين فاتح رمضان 1379هـ، الموافق 29 فبراير 1960م.

        وتحت تأثير الأزمة السياسية التي كانت تظهر من حين لآخر، خاصة فيما يتعلق بتشكيل الحكومة، فقد ترأس بنفسه الحكومة التي أعلن عنها يوم الخميس 29 من ذي القعدة 1379هـ، الموافق 26 مايو 1960م.

        وسعياً إلى استكمال الوحدة الترابية واسترجاع بعض الأقاليم، تمت استعادة طرفاية في فبراير 1958م. وفي الشهر نفسه، وبالضبط في السابع عشر منه، كسَّر جلالته بيده في عرباوة حاجز الحدود بين الشمال والجنوب.

        ثم إنه قام بزيارات لعدد من المدن والأقاليم، بقصد الاطلاع المباشر على أحوالها، والوقوف شخصياً وعن قرب على حاجياتها، والبدء في بعض المشروعات الحيوية، كإنشاء جامعة عصرية في الرباط تحمل اسمه الشريف، وكان قد تم تدشينها في 28 جمادى الأولى 1377هـ، الموافق 21 دجنبر 1957م، وكإقامة السدود على نحو ما تم بتشييد سد اقْليلة على نهر ملوية في يونيو 1960م. وهو الشهر الذي شرع أثناءه في إعادة بناء أﮔادير التي كانت تهدمت في الزلزال.

        أما على الصعيد الخارجي، فقد استقبل جلالته خلال هذه الفترة عدداً من قادة الدول العربية والأجنبية، كما قام بزيارات لعدد من الدول الشقيقة والصديقة.

        ثم توجت منجزاته على المستوى الخارجي بالدعوة إلى أول قمة إفريقية. وهي التي عقدت بالدار البيضاء في رجب 1380هـ، الموافق يناير 1961م. وذلك شهراً واحداً قبل أن يختاره الله إلى جواره يوم الأحد 10 رمضان الموافق 26 فبراير، على إثر عملية جراحية أجريت لجلالته في اليوم السابق. ودُفن أول الأمر في ضريح جده الحسن الأول بالمشور بعد أن صُلي عليه في مسجد حسان الذي سيقام إلى جواره ضريح باسمه لينقل إليه في 10 رمضان 1391هـ، الموافق 30 أكتوبر 1971م.

        وطبقاً للقانون، ووفقاً للتقاليد المرعية في مثل هذه المناسبة الأليمة، بويع مباشرة ولي عهده مولاي الحسن ملكاً على المغرب خلفاً له ؛ وتمت توليته رسمياً يوم الجمعة 15 رمضان الموافق 3 مارس، فتحمل الأمانة وأدى الرسالة، متغلباً على الأزمات الكثيرة التي اعترضته.

        فبعد أن أجلى الجيوش الأجنبية، تحفز من اللبنات الأساسية التي وضعها والده المنعم، للانطلاق في مسيرات للتشييد والتوحيد، بإبداع متفرد تشهد له به المسيرة الخضراء لاسترجاع الصحراء التي كان دخولها يوم 6 نونبر 1975م. كما تشهد له منجزاته العديدة، ومواقفه الدالة على مدى حكمته وتبصره في تدبير سياسة المغرب الداخلية والخارجية، وخاصة على الصعيد العربي والإفريقي والإسلامي.

        بهذا وغيره، أحدث نهضة حقق بها للوطن من الرقي والتقدم والازدهار ما بوأه مكانة متميزة بين الدول، وحقق بها لنفسه قبل ذلك محبة تبادلها مع شعبه الذي بكى وفاته التي وقعت بعد عصر الجمعة 9 ربيع الثاني 1420هـ، الموافق 23 يوليوز 1999م. وقد دفن يوم الأحد الموالي في ضريح محمد الخامس، بعد أن صُلي عليه إثر صلاة العصر بمسجد حسان المجاور.

        ومساء يوم الوفاة نفسه، وبإجماع لم يسبق له نظير، تمت بيعة نجله الأكبر، ولي عهده ووارث سره جلالة سيدي محمد السادس الذي ولد يوم الأربعاء فاتح ربيع الثاني 1383هـ، الموافق 21 غشت 1963م، والذي هو سائر لإكمال الطريق وبلوغ الآمال، بفكر حداثي وسياسة متجددة، أيده الله ونصره.

 

        وتلكم صفحة أخرى أو كتاب جديد، بل كتب كثيرة لعل إصدارها أن يتوالى بمناسبات بهيجة وذكريات سعيدة إن شاء الله.

                                      

 

                                                                               عباس الجراري