الإسلام  و اللائكـــية

 

معرفة الإسلام

 

 

 

عباس الــجـراري

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفهرس

مقدمة. 4

مدى إمكان التوفيق. 6

مفهوم اللائكية والعلمانية. 8

علاقة اللائكية والعلمانية بالإلحاد 11

حقيقة الإسلام 14

ارتباط الدنيا بالدين في الإسلام(الشأن السياسي) 17

إشكالية العقل في الإسلام 20

بين التحديث والدين. 24

واقع الأنظمة العربية و الإسلامية. 28

الأقلية المسلمة في مجتمع لائكي(فرنسا نموذجا) 31

إظهار الإسلام في هذا المجتمع. 33

بين الاندماج والحفاظ على الهوية. 36

 

 

 


 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقدمة

 

 

 يعتبر موضوع "الإسلام و اللائكية" من بين الموضوعات التي شغلت وتشغل كثيراَ من المهتمين بالواقع الإسلامي،  وقضايا الحداثة، والفكر المعاصر، والعلاقة مع الآخر. وما هذا الآخر إلا  الغرب المتخوف من تنامي الأقليات المسلمة فيه، ومن الصحوة الإسلامية عامة؛ ولاسيما بعد أن أصبح المسلمون ـ بدينهم وتاريخهم وثقافتهم وحضارتهم ومشاكلهم ـ في قفص الاتهام بالتطرف والإرهاب، مُلصقة بهم جريمة ما وقع في 11 سبتمبر، وما سبقها وأعقبها من أحداث جعلتهم بضعفهم الحالي يخيفون الأقوياء، ويتعرضون من أجل ذلك لأبشع ألوان العدوان.

 

في إطار هذا الاهتمام ، نظمت جمعية "مجال التنمية والتعاون الثقافي الأورو-متوسطي" ملتقى في مدينة تولوز بفرنسا، يومي 28 و 29 أبريل 2003 ، لتدارس هذا الموضوع ، ولتبادل الرأي حول الواقع الإسلامي الذي توليه فرنسا عناية كبرى، وتعتبره في طليعة قضايا الساعة، ومن بين أبرز اهتماماتها الاجتماعية.

وقد تلقيت من رئيس هذه الجمعية السيد ميمون حُوبَيْن دعوة ـ رحبت بها وشكرته عليهاـ للمشاركة في هذا الملتقى، ببحث اقترَح َله عنوانا جامعاً هو:"الإسلام واللائكية:معرفة الإسلام".   و بعد أن حالت، للأسف، ظروف و التزامات طارئة دون الحضور و تقديم عرض موجز بالفرنسية وفق المطلوب، ارتأيت أن أتوسع في الموضوع لأهميته، و أن أحرر فيه بحثا باللغة العربية حتى تعم الفائدة به. و هو هذا الذي أنشره لعموم القرّاء، مع ترجمة كاملة له بالفرنسية و الإنجليزية قامت بها ابنتي ريم أصلحها الله، باكورة لما قد تنجزه من أعمال تعجيميّة فيما بعد.

وبالله التوفيق.

الرباط في 10 ربيع الأول 1424 ه الموافق 12 ماي 2003 م

 

 

عباس الــجـراري

 

 

!!!


 مدى إمكان التوفيق

 

مِن تتبع ما قيل وكتب في هذا الموضوع الشائك "الإسلام واللائكية"يتبين التعارض الذي آلت إليه الآراء، مُوَزَّعة بين الرافضين لإثارته على اعتبار أن اللائكية تتعارض مع الإسلام في كل شيء، وبين الذين لا يرون هذا التعارض، شريطة أن يحصر الإسلام في دائرته الدينية الصرف، من حيث هو إيمان فردي وشعائر تعبدية نابعة منه، في انفصال عن أمور الدنيا التي يمكن في هذه الحال أن تعالج من منظور لائكي محض.

 

والحقيقة أن هذه ليست هي المرة الأولى التي يواجه فيها الفكر الإسلامي ـ ولا أقول الإسلام ـ مثل هذه الإشكالية التي تُعرضه للاختبار ولاِنقسام الآراء كذلك. وهو تعرُّض ٌناتج عن مدى انفتاح هذا الفكر وقابليته للأخذ والعطاء، وناتج أيضا عما كان له منذ النشأة من ممارسات اجتهادية، ومن احتكاك بمذاهب دينية وفلسفية مختلفة، مسيحية ويهودية ومجوسية وغنوصية.

 

وحتى أبقَََى في  المجال الفكري، بعيدا ًعن الصراعات السياسية والنزاعات المذهبية المبكرة التي عاشها المسلمون، فسأكتفي بالإشارة إلى مسألة الجَبْر والاختيار التي أثارها علماء الكلام منذ القرن الهجري الأول (السابع الميلادي)، وكذا مسألة العقل والنقل بعد ذلك، ابتداء من القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي)، وما نتج عنها من محاولات التوفيق بين الدين والفلسفة، أو بين الشريعة والحكمة.

 

وعلى الرغم من أن هاتين القضيتين لم يكن لهما أثر في تطوير واقع المجتمع الإسلامي وفي المواجهة المباشرة لمشاكله، والسياسية منها على الخصوص، بقدر ما أظهرت إمكانات الذين تناولوها على الجنوح للما وراء والتجريد وإثارة مسألة الألوهية، والاكتفاء بالتعبير غير المباشر عن هذه المشاكل، وربما تبريرها، فإن قصدي من الإشارة إليهما ـ ومثلهما كثير ـ أن أبرز مدى الشبه الظاهري الذي بينهما وبين قضية الإسلام و اللائكية.

 

وهي إشارة تبرهن على أن الفكر الإسلامي كان قابلا للتواصل الداخلي، رغم بعض العوائق الذاتية، ودائم الاحتكاك بفكر الآخر، حتى ما كان منه معارضاً أو مناقضاً؛ في غير رفض له  حاسمٍ يفْضي  إلى القطيعة وإغلاق باب الحوار وإمكان إجرائه. كما تبرهن على أن عقيدة المسلمين لم تعان أي تحريف أو تراجع بسبب ما أثاره مفكروهم من نقاش، بل ظلت مستمرة وقوية.

 

 ولعل ما تعرفه العقيدة اليوم ـ بفضل اعتدالها وتسامحها وسلميّتها ورغم تشويش بعض الجهات المتشددة عليها ـ من نهوض متجدد، لََخيْر ُدليل على ذلك؛ مما لا ينبغي أن يجعلهم، وعلماءهم خاصة، يقعون بسبب الظرفية الراهنة، في مهاوِي الانزعاج السلبي الذي قد يؤدي إلى اليأس والانزواء، والاستسلام للتحديات التي تواجههم، والتي يجب عليهم رفعها بسلاح العلم والحكمة والعقل، وتوحيد الرُّؤَى والمواقف أو تقريبها على الأقل، في تقدير للمصالح العليا والأهداف البعيدة.

 

ولعل هذه الإشارة التمهيدية أن تسعفني ـ وتشفع لي كذلك ـ في تناول إشكالية "الإسلام و اللائكية" ، بادئا ًبتعريف كل من هذين المصطلحين المكونين لها، حتى يتم تصورهما على الحقيقة، ثم الحكم فيما بعد على ما قد يكون بينهما من عناصر الجمع أو التفريق.

!!!

 

 

 

مفهوم اللائكية والعلمانية

 

أما "اللائكية"فلفظ منقول عن المصطلح الفرنسي laïcité و أصله في اللاتينية   laicus وفي اليونانية  laikos بمعنى المنتمي للشعب،أي العامة و الجماهير وليس إلى طبقة خاصة كان يُقصد بها طبقة الكهنوت.

 

ويتجلى أساس الفكر اللائكي في فصل الدولة عن الدين الذي ينبغي أن يكون لها موقف حيادي منه، ومن ثم عدم أهليتها لخوض مجاله، كما يتمثل بالمُقابل في إبعاد جهاز الكنيسة الممثِّل للدين عن مهام ِّالدولة بسبب عدم أهليته لذلك. ولم يكن الأمر سهلاً، لحقيقة بسيطة هي أن للسلطة الزمنية ـ أي للدولة ـ تصورها لأمور الدين والرغبة في ممارسته؛ كما أن للسلطة الروحية ـ أي الكنيسة ـ تمثَُلاً لشؤون الدولة مع التطلع إلى تطبيقه؛ في وقتٍ تحاول كل جهة أن تحافظ على استقلاليتها، بعيداً عن أي تدخل من الجهة الأخرى. وهو ما أثار غير قليل من النزاع والصدام على مدى فترات طويلة من التاريخ.

 

وقد ظهر التيار اللائكي أول الأمر في فرنسا غداة الحروب الدينية، عَبْرَ محادثات ونقاشات كانت ترجح الميل إلى مجتمع يحظَى بالتعدُّد والتآخي، والميل إلى توجه ليبرالي يوفَّقُ فيه بين الديني والدنيوي، اعتباراً لأن أي عمل يمس الدنيا، مهما يكن انفصاله عن الطابع الديني، فهو لابُدَّ متأثِّر بفعل الضمير الذي يتدخل في صياغته، واعتباراً كذلك لأن احترام الدولة لثقافة مجتمع تسوده التعددية يقتضي احترام عقيدته التي هي في بُعدها الفردي والجماعي جزء من هذه الثقافة ومكوِّن أساسي لها؛ مما يستلزم نوعاً من التعايش قائماً على قبول الآخر بتسامح. وهو ما نصت عليه الاتفاقات الأوروبية والدولية حول حقوق الإنسان، وأكدته التصريحات البَابَوية المقِرَّة بهذا الوضع والقابلة له.

 

وقريب من مصطلح "اللائكية" الذي كان مستعملاً في فرنسا ومتداوَلاً بين الكاثوليك، كان مصطلح "السيكولاريزم" منتشراً في إنجلترا وبين البروتستان.وقد تُرجم إلى العربية ب"العِلمانية"(بكسر العين)عند البعض، ظناً أنه منسوب للعلم، على الرغم من غرابة هذه الصيغة. كما تُرجم ب"العَلمانية"(بفتح العين) عند آخرين، باعتبار أن لفظ             secularism في الإنجليزية  و secularité في الفرنسية يعنيَان العالم والزمن والدهر؛ وأصلهما اللاتيني هو   saeculum الدال على هذه المعاني بحق. ومع ذلك فلو تُرجم ب"الدهريّة"ـ وهو مصطلح معروف ـ أو "الدنيوية" أو"الزمانية" لكان أوضح وأصْوَب.

 

مهما يكن من هذا التقارب الذي أدى في ذهن الكثيرين إلى الخلط بين المصطلحين، فإن التيار العلماني بدأ على شكل توجُّه سياسي يسعى إلى رفض الهيمنة التي كانت للكنيسة على الحكم طوال القرون الوسطى، ويوطد لمبدإ القوة وفرض السيطرة والنفوذ، على أساس أن هذا المبدأ هو الهاجس الكامن عند الإنسان. وهو توجُّه ظهر في منتصف القرن السابع عشر، بعد انتهاء عهد الحروب الدينية والمناداة بالدولة القومية. وقد تقوَّى في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بعد أن تأثر بما كان دعا إليه بعض الساسة والفلاسفة.

 

ويكاد التياران "اللائكي" و "العلماني" أن يشكلا منحىً واحداً إلى درجة الخلط بينهما1 كما أسلفتُ ـ على الرغم من بعض التميزات الواضحة التي هي عند الأول فصل الدولة عن الدين الذي ينبغي أن يبقى أمراً فردياً لا دخل له في تسيير شأن المجتمع ككل، مع إيجاد تصور للحياة يعتمد التجربة الإنسانية والقيم الناتجة عنها، وعدم الاهتمام بأية مرجعية عقدية مهما يكن لها من وجود في هذا المجتمع؛ في حين أن العلمانية ارتبطت بظهور وعي جديد بالحياة يبدو في ظاهره غير بعيد عما دعتْ إليه اللائكية، إذ بلْور رؤية متطورة لم تلبث أن تجلى معها فكر تغييري برز في مظاهر اقتصادية واجتماعية وثقافية وعلمية وإبداعية تعتمد العقل والملموس، وتُبعد أو تُلغي كل ما هو مُغَيَّب إن لم أقل كل ما هو مقدس، في حرص على تحرير المعرفة من هيمنة المفاهيم المطلقة.

 

وكان لهذا الفكر "الحداثي" و "التجديدي" يومئذ أثره في مزيد العناية بأمور الدنيا، وإن على حساب الاهتمام بالشؤون الدينية التي وجدت نفسها مضطرة أن تتقلص وتنزوي، تاركة المجال لهذا المنحى الدنيوي الذي تحرر من سلطة الكنيسة، وغدا بذلك المرجع والعنصر الفاعل في الحياة عامة.

 

 

 

!!!

علاقة اللائكية والعلمانية بالإلحاد

 

بهذه الرؤية المادية الصرف التي  سادت في أروبا، أضحت حياة الإنسان والمجتمع، وكذا سلوكهما مع الذات والآخر، غير مرتبطة بوازع العقيدة. وهو سلوك نتج عنه تحلُّل في مختلف القضايا والمواقف، مما يأمر به الدين أو ينهى عنه، وما يدعو إليه من مبادئ وقيم تمس هذه الحياة، سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو غيرها؛ إذ أصبح على الفرد أن يتصرف فيها بمحْض حريته ومصلحته، مع استبعاد ٍلأي تنظيم أو أية مؤسسة يكون لها نزوع ديني، بل لم تلبث أن ظهرت بعض المبالغات التي تُؤله الإنسان باعتباره المرجع والحَكَم.

 

وإذا كان هذا التوجه يُلح  على ترشيد الفرد وحريته ويُلغي من حياته وفكره  وسلوكه أي تأثُّرٍ بالدين وأجهزته، فلأنه يزعم التفريق بين عالمين:عالم الله وعالم الدنيا، مُعتبراً أن الإنسان لا يمكن أن يتبعهما معاً؛ مما يقتضي تجريده من الحس الديني وجعله قابلاً لتنحيته من الحياة. وقد أبان تاريخ المجتمعات البشرية منذ بدء الخليقة أنه أمر مستحيل، لتعارضه مع الفطرة الإنسانية والأحاسيس الوجدانية والمشاعر الحدسية تجاه الكون والمغَيَّبات2[1]

 

وهو بهذا، وإن لم يرفض الدين جملة، فإنه يدعو إلى إيجاد مجتمع مدَني متعدد المعتقدات، يكون الدين فيه أمراً خاصاًّ بكل فرد. إلا أنه حين يتبلور كمذهب يَفرض أن تسير عليه الحياة في مجتمع ما، فإنه لا يلبث أن يتحول إلى عقيدة أشبه ما تكون بالدين، لما يتطلب من امتثال وممارسة وعدم التنكر له أو الخروج عنه؛ وقد يلجأ في ذلك إلى الاستبداد والجور والطغيان.

 

ومن ثم تكون العلمانية قريبة من الإلحاد إن لم تكن رديفته. وهو ما لا ينطبق على اللائكية وفق ما تبيَّن من طبيعة كل من هذين التيارين؛ لأن الإلحاد  atheisme يدعو إلى إنكار الألوهية كُليةً، واتخاذ كائنات أ و مخلوقات وما إليها آلهة ًتُعبد، أو إنكار وحدانيتها عن طريق إشراك غيرها بها. وعلى الرغم من أنه اتخذ واجهات متعددة منذ بدء الحياة الإنسانية، إلا أنه عرف تطوراً ملحوظاً على إثر الصراع الذي خاضه في أروبا بعض العلماء والفلاسفة ضد الكنيسة منذ القرن الثامن  عشر؛ في حين أن التيار اللائكي يسعى ـ كما سبق توضيح ذلك ـ إلى فصل الدين عن الدنيا، وربما كان له بهذا أصل في الديانتين اليهودية والنصرانية، وخاصة هاته التي هي عقيدة روحية. وكان السيد المسيح عليه السلام قد أثاره حين فرَّق بين المجالين: الروحي والزمني من خلال القولة الشهيرة المنسوبة إليه:"أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله".

 

ولعل هيمنة الكنيسة بابتعادها عن هذا الطابع، كان أحد الأسباب التي قادت إلى النهوض ضدها والثورة عليها، إلى جانب التحجُّر الذي مارسته، والذي وُوجِه بتطور علمي كان له أثر كبير في ظهور اللائكية وحتى العلمانية. وقد يضاف إلى هذا التطور الذي تجلى في علوم كالسياسة والقانون والفلسفة، أن التيارين ارتبطا ببعض القيم الإيجابية، كالعقلانية والحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان.

 

وهكذا يتضح أن اللائكية والعلمانية عرفتا نشأتهما وتطورهما في أروبا مــتأثرتين بظروف تاريخية ودينية وفكرية واجتماعية معينة. إلا أنهما لم تلبثا أن لقِيتا بعض الصَّدى في العالم العربي والإسلامي، حيث تسربتا في ركاب إيديولوجيات وافدة اتخذت صيغاً متعددة، كالليبيرالية والاشتراكية ، أو توجُّهات فكرية كالحداثة؛ إذ وجدتا في هذا العالم على مدى القرن العشرين مجالا خصبا ًنتيجة تخلفه والأوضاع المُتَردِّية فيه، إضافة إلى الظرفية الراهنة التي يجتازها المسلمون، متهمين ظلماً وعُدواناً بالتطرف والإرهاب.

 

!!!


حقيقة الإسلام

 

وأما الإسلام ـ كما لا يخفى على أحد ـ فهو الدين الذي بعث الله به رسوله سيدنا محمداً عليه الصلاة والسلام، وجعله خاتم الديانات وآخر كلماته لهداية البشر. ويتضمن عقيدة تدعو إلى التوحيد المطلق، بكل ما يستلزم من إيمان وأداء لبعض التكاليف التعبدية. كما يتضمن شريعة تشكل النظام الذي ينبغي أن تكون عليه حياة الفرد والمجتمع، في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والعلمية، انطلاقاً من قيم تنهى عن الفواحش والقبائح والمُنْكرات وجميع ما يؤدي إلى الظلم والفساد؛ وتحث على الخير والفضيلة وكل ما يرتبط بهما ، ويفضي إليهما من حرية وعدالة ومساواة وكرامة.

 

إنه بهذا دين متكامل وشمولي، يتسم بالسماحة والاعتدال واليسر والمرونة، حتى يكون خطاباً للناس كافة، صالحاً لكل زمان ومكان، وقابلاً للتعايش والتعارف، وهادفاً إلى تحقيق سعادة الدنيا، والإعداد لسعادة الآخرة. وهو ما لا يتأتى إلا بالتغيير الذي جعله الله إحدى سننه في الكون، ومكَّن الإنسان من إحداثه في كل ما هو غير قار ولا ثابت، حاثّا ًله ـ برؤية مستقبليّة تحديثيّة باستمرارـ على عدم التبعية العمياء للقديم، والتشبث المتصلب بما وجد عليه الآباء. ولا يتسنى ذلك إلا بالالتزام بما يكون مناسباً للإنسان ومحيطه وعصره، وبما يقتضي التمييز في هذا التغيير بين ما هو إصلاح لتقويته ومواصلته، وما هو إفساد لمواجهته وتنحيته. وهذا لا يكون إلا بالفكر الرصين والأهلية العلمية والإرادة الحسنة والضمير النقي، والقدرة بصدق وإخلاص على حمل الأمانة والنهوض بالمسؤولية.

 

وقد وضع القرآن الكريم الذي هو المرجع الأول للإسلام معالم الطريق لكل ذلك، تعززه السنة النبوية التي جاءت لتبيين هذه المعالم. وتتمثل ـ وهي المرجع الثاني ـ في الأقوال والأفعال والتقريرات التي صدرت عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، بإلهام إلهي، وكذا باجتهاد منه في النوازل الطارئة على بساط الدين، وفي المستجدات التي يفرزها الواقع متصلة بالشؤون الدنيوية. وهو المنهج الذي سلكه الخلفاء الراشدون ومن سار على هديهم من علماء القرون الأولى، قبل أن يتسرب الجمود والتحجر للفكر الإسلامي على العموم، وللفقه على الخصوص.

 

وإذا كنت أثير الانتباه  لهذا الملمح الانغلاقي في المسيرة الإسلامية وألح على إبرازه، فليقيني بأن كثيراً من المشاكل التي يعانيها المسلمون اليوم، سواء في علاقاتهم بأنفسهم أو بغيرهم، راجعة إلى إغفال هذا الملمح أو سوء فهمه. وهو ما يوقع في اتهام الإسلام بعدم ملاءمته لمباشرة متطلبات الحياة المتغيرة وما تقتضي من تحديث وتجديد، ويُفْضي بالتالي إلى البحث عما يسعف في ذلك، من خلال مذاهب ونظريات يُراد في الغالب اتخاذها بديلة عنه، وقد يُتستَّر خلف محاولة تكييفها معه.

 

وبعيداً عن هذا الاتجاه وذاك، وفي سعي إلى إثارة ما هو أساسي في جوانب الاتفاق أو الاختلاف بين "الإسلام و اللائكية" فسوف أكتفي في هذا العرض، ليس بإجراء مقارنة بين دين سماوي ومذهب بشري، مما هو غير ممكن ولا مقبول، ولكن بلفت الانتباه إلى بعض تلك الجوانب، ولا سيما ما يحث منها على مراجعة الذات وإعادة الثقة فيها ومكونات هويتها عامة، وفي الدين خاصة، مما لاشك يؤدي إلى الاطمئنان.

 

وأود أن أؤكد أن هذا  لا يعني البحث بأي حال عن توافق بين الإسلام و اللائكية يتحقق به تراض بين المسلمين و اللائكيين، عبْر توازنات مفتعلة، لأن الإسلام بأحكامه الثابتة وقيمه الراسخة وبمنظوره الشمولي يرفض مثل هذه العملية التلفيقية، لاسيما ما كان من ذلك مضبوطاً ومحددا ًومحسوماً بالقرآن الكريم الذي لا يَقبل الإيمان ببعضه والكفر بالبعض الآخر، مما يَعتبر جزاءه الخِزي في الدنيا والعذاب في الآخرة.

 

إن الإسلام بحكم ماهيته وطبيعة مبادئه وتعاليمه، لا يعارض أو ينافي أي توجه للتطوير والتجديد والتحديث والتنوير، مع كامل الحق في أن تكون له في ذلك رؤية خاصة لا يضيرها وجود رؤى أخرى متفقة معها أو مختلفة.

 

وفي مقاربة أولية أرجو ألا يُفهم منها التوطئ لترغيب اللائكية في الإسلام وتسريبه إليها، أو ترغيب المسلمين في اللائكية وتسريبها إليهم، وعطفاً على ما سبق ذكره بالنسبة للعلمانية ، وبناء كذلك على ما هو معروف من أ ن الإسلام دين يرتبط بالحياة الطبيعية       و الفطرة السليمة حتى في أوامره و نواهيه، وأنه يبوئ الإنسان بالتكريم مكانة تتجاوز مجرد ترشيده و تمتيعه بحريته وحقوقه، فسأقف عند بعض القضايا التي تحتاج إلى شيء من التمعن والتأمل، لما قد تثيره ، خاصة حين يُراد النظر إليها من زوايا توجهات أخرى، كاللائكية، مكتفياً باثنتين منها، هما: علاقة الدين بالدنيا، وتحكيم العقل والعلم.


!!!


ارتباط الدنيا بالدين في الإسلام      (الشأن السياسي)

 

وأبدأ بمسألة الدين في اتصاله بالدنيا، ولاسيما بأمر السياسة. وهي التي تقول اللائكية فيها بالفصل، لأنها لا ترفض الدين جملة، وإنما تراه أمرًا شخصيا يعني الفرد في ذاته لا يتجاوزه، بل لا ينبغي أن يتعداه إلى احتضان المجتمع . وهذا على عكس الإسلام الذي لا يقول بالفصل، إذ يوفق بإحكام بين الفردية والجماعية، وبين واقع الحياة ومثالية القيم، ويُعْنَى نتيجة ذلك بالشؤون الدنيوية، في جمع بينها وبين أمور الدين. وهو يعتبر أنه إذا كانت هذه محكومة بالمصدر الديني، فإن تلك متروكة للناس وما لهم فيها من دراية، ما لم تتعارض مع القيم النابعة من هذا المصدر. كما يعتبر ما قد يكون في المجتمع من تعدد ديني لا يبيحه فقط، ولكن يمنحه الحرية، ويُبعد عنه أي إلزام أو إكراه، طالما أن لكل دينَه في نطاق احترام دين الآخر، وأن الإيمان أو الكفر متروكان  لمشيئة الشخص. بل إن الإسلام يزيد فيحفظ هذا البعد ويضبطه بتشريعات وقوانين تعتبر غير المسلمين من "أهل الكتاب" في ظل هذا التعدد"أهل ذمة"أي ذمة الدولة التي تحميهم وتجعل لهم وضعاً خاصاًّ ومتميزاً يستفيدون منه . وهو موضوع سأعود في آخر هذا العرض إلى ما يقابله بالنسبة للأقليات المسلمة في بلاد الغرب ولاسيما في فرنسا.

 

وحين يكون الشأن الدنيوي متصلا بالسياسة، فإن الإسلام يرى أن الصلة بين هذه والدين قائمة على بعض الدعائم التي جاءت بها نصوص القرآن والسنة  والتي من شأنها أن تحقق العدل والمساواة، وتحول دون التسلط والاستبداد؛ وأبرزها "البيعة" التي هي اعتراف شرعي وعقد إلزامي بين الحاكم والأمة، ثم "الشورى" التي يمكن ـ بل ينبغي ـ أن يُبحث لها باستمرار عن صيغ جديدة لها تتناسب مع تطور الحياة؛  وقد تتفق في بعض هذه الصيغ مع الديموقراطية، على ما لهذه من مظاهر وأشكال متعددة. وما سوى ذلك فهو متغير، بناء على ما تدرك به هذه الغايات. ومن ثم فهو يرفض أن يوجد كهنوت يمثل وسائط بين المومن وخالقه، وأن يكون أمر الحكم مقدساً ومفضياً بذلك إلى التوسل بالحق الإلهي المطلق الذي يؤدي إلى إضفاء القداسة والعصمة على الحاكم الذي ينبغي أن يطاع في جميع الأحوال طاعة عمياء، حتى ولو كان مستبدًّا طالما أنه ينوب عن الله؛ وإن كان هذا الرفض لا يتعارض مع الدعوة إلى الحكم بما أنزل الله.

 

ومع ذلك، ومع أن هذا المفهوم "التيوقراطي" مناف للإسلام وإن طبقه بعض حكام المسلمين، فإن الاقتناع بصلاحية الشرع لتقوم عليه السياسة في مختلف جوانبها ، يتطلب لاشك البدء بنقد واقع هذه السياسة في المجتمعات الإسلامية، منذ النزاعات الأولى التي عرفها المسلمون في مشكل الخلافة، والتي مزقت وحدتهم، والتي حملت معها مفهوماً للدولة يجعل الدين أداة لها وليس العكس؛ مما جرَّ عليهم كل الويلات التي اعترضتهم، والتي ألصق الخصوم تهمتها بالإسلام. وهذا يستلزم اعتبار سياق التاريخ والعوامل الفاعلة فيه ـ وهي سياسية وإن توسلت في ظاهرها بالدين ـ لإمكان فهم مسيرة المسلمين على حقيقتها، وكذا إدراك أسباب تقدمهم في الماضي وتخلفهم في الحاضر.

 

وإن المتأمل في هذا الواقع لا يلبث أن ينتهي إلى أن العوامل نفسها ما زالت قائمة، وربما بحدة أكبر، تحركها المصالح والغايات الآنية والتوجهات السياسية وطبيعة العلاقات، وما يتشكل بكل ذلك من منطق يفرض نفسه في اتخاذ المواقف، بغض النظر عن مدى موافقته أو معارضته للإسلام. وهكذا يبدو الواقع في أغلب الحالات، وكأنَّ مظهره المتشبث بأحكام الشرع، يُخفي وجهاً آخر مناقضاً لا صلة له بهذه الأحكام، وما هو محدد فيها من شروط لقيام نظام حكم إسلامي سليم.

 

ولعلَّي أن أوضح أن الجانب الدنيوي في الإسلام مرتبط بتشريعات وأحكام هي بدورها متصلة بواقع عاشه المسلمون في مرحلة تاريخية معينة متأثرة بالسياسة وما لها من انحرافات وعواقب سلبية. ومن ثم فهي ـ أي هذه التشريعات والأحكام ـ ليست ثابتة ولا جامدة، بل هي قابلة -في حدود مرونتها وداخل إطار القيم الدينية- للتطور المواكب للواقع الذي لا يختلف اثنان في أنه غير ثابت ولا جامد. إلا أن إجراء هذا التطور يقتضي النفاذ إلى عمق الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها النصوص التي انبثقت عنها تلك الأحكام والتشريعات؛ وبالتالي فهي تتطلب فكراً تجديديّا وأدوات اجتهادية قادرة على ذلك. والأسف أن ما عاناه المسلمون طوال القرون المتأخرة من تحجر وانغلاق، حال دون هذا الإجراء الذي كان ينبغي أن يتواصل، مسايراً لمدى تحول الواقع وتغيره.

!!!


إشكالية العقل في الإسلام

 

وأما مسألة العقل ـ وهو مقترن دائماً في الإسلام بالقلب ـ فإنه لا تخفى قيمته، إذ به يكون الإنسان مُكَلَّفاً ومُحاسَباً، طالما أن به يميز بين النافع والضار، والطيب والخبيث، والمعروف والمنكر، ثم الحلال والحرام. وبناءً على ذلك تكون كل تصرفات الإنسان، ويكون اختياره للعقيدة واقتناعه بها، مثلما يختار قيمه السلوكية؛ ثم يكون الحساب والجزاء، وإن ربطت بعض النظريات الفكرية غير الدينية هذه القيم بالضمير فحسب.

 

والاختيار لا يكون إلا بالحرية، وإلا فهو فرض وإجبار. والمقصود بها في الدرجة الأولى حرية الفكر والإرادة ثم حرية الفعل والتصرف، أي تحمل المسؤولية في هذا الفعل والتصرف؛ لأنه بدون الحرية لا تكون المسؤولية. والحرية ركن في الاعتقاد الإسلامي، لأن الإسلام جاء لتحرير الإنسان من العبودية في شتى أشكالها القديمة والحديثة، إلا من العبودية لله وحده.

 

    ومثلما أَوْلى  الإسلام عناية فائقة للعقل، فكذلك أوْلاها للعلم الذي هو في منظوره متطور ومتغير ومتنام نتيجة تعرضه للحذف والإضافة والتبديل، بفضل اكتشافات العقل وغيره من مصادر المعرفة؛ فحرص عليه وعلى تعلمه، من غير أن يحصره في جانبه الشرعي المتعلق بأمور الدين فحسب، ولكنه فتح به المجال لكل ما فيه صالح الإنسان والحياة. وهذا ما جعل المسلمين الأوائل إبان ازدهار الثقافة والحضارة الإسلاميتين يخوضون مختلف الميادين العلمية، من فلسفة وطب وصيدلة وفيزياء وكيمياء وفلك ورياضيات وجغرافيا وغيرها، متوسلين بالترجمة؛ إلى جانب الميادين الأدبية والفنية، ولاسيما الموسيقى، على الرغم من الأصوات التي كانت ترتفع لتحريم هذا الفن، والتي ما زالت حتى اليوم تحاول ذلك. بل إن المفكرين المسلمين الذين خاضوا غمار الفلسفة لم يتحرجوا من النظر في الفلسفة الإغريقية، محاولين التوفيق بين نظرياتها والدين ، كما ذكرت في مقدمة هذا العرض، وساعين بذلك إلى أسلمة هذا النوع من المعرفة.

 

وهو سعي ما زال يتردد لحد الآن، وإن بفهم خاطئ يؤدي إلى الابتعاد عن دراسة العلم الدنيوي، اتقاءً لشره واجتناباً للاحتراق بناره كما يزعم بعض المتشددين، غافلين عن أن العلم يعين الإنسان على ضبط منظوره للكون، وإدراك الظواهر والقوانين المتحكمة مادياً فيه، وفق ما جاء به الدين الذي يدعو إلى تأمل هذا الكون وتدبره. ومرد هذا الفهم الخاطئ إلى ضعف النظر العلمي وما ترتب عنه من انغلاق ضيق آفاق العلوم الإسلامية، ومن جمود أفضى إلى الاقتصار في هذه العلوم على الترديد والاتباع، والاكتفاء بالشرح والتعليق، والابتعاد عن النقد في الغالب؛ مما حال دون متابعة إبداع فكر إسلامي جديد، فضلاً عن الإسهام في التقدم العلمي العالمي أو حتى مواكبته.

 

إن أسلمة العلم في الحقيقة تقتضي الاطلاع عليه واستيعابه وهضمه وإدراك حقائقه، لاستخلاص ما يمكن توظيفه واتخاذه مدخلاً لمجال الإنتاج العلمي. إنها في جميع الأحوال لا تعني أن هناك علماً ينبغي أن يكون خاصاً بالإسلام؛ فهذا غير صحيح ، والتمسك به يؤدي إلى الانغلاق، ولكن يعني النظر إلى العلم في تطوره الدائب من خلال رؤية توفيقية مع توجه المسلمين العقَدي الإيماني وما هم ملتزمون به من قيم، مع إمكان اتخاذ موقف منه، ولو بالرفض الكلي أو الجزئي، على نحو ما فعلوا في مواجهة انحرافات الاستنساخ والهندسة الوراثية. ولعل هذا من حقهم الذي لا يمكن أن يعترض عليهم فيه أحد. وهو ليس خاصاً بالمسلمين فقط ، ولكن يلتقي معهم فيه كذلك أصحاب ديانات أخرى ومذاهب مختلفة.

 

والحث على اقتباس المعرفة ـ مهما يكن مصدرها ـ للاستفادة منها بفهم وتمييز، يتطلب إيجاد تواصل تفاعلي مع الذات والآخر، يعتمد سَبْرَ أغوارهما والوقوف على العناصر المكونة لهما، بهدف استخلاص حقيقتهما وخصوصياتهما المميزة، والتمكن بعد ذلك من تشكيل إنتاج جديد يتسم، أو يُفْتَرَض فيه أن يتسم بالجِدة والبَداعة في مفهومه وبنيته؛ دون التخلي عن الخيط الرابط في هذا التواصل.

 

والإسلام، مع عنايته بالعقل والعلم، يثير نوازع إنسانية ومقتضيات ذاتية يستجيب لها، لا يلبيها العقل والعلم، لارتباطها بالنفس والضمير والوجدان والحدس وغيرها من المَلكات. وهذا ما يجعل العقل في ارتباط دائم بالقلب ـ كما أسلفت ـ أي بالمفهوم المتسع للقلب، وبموقف وسطي. ذلك أن وسطية الإسلام لا تتجلى فقط في العبادات والسلوك، ولكنها تتجلى كذلك في الموقف التوفيقيّ بين ما يبدو في غير الإسلام من المتناقضات أو المتقابلات، كالواقعي بالنسبة للمثالي الذي يصل إلى الخارق، والمحسوس أو الملموس الذي يواجهه التجريدي والغيبي. وهي كلها تدل على ما يمكن اعتباره تفكيراً بشريّاً نابعاً من الأرض، بالقياس إلى المعتقد الديني المنبعث من السماء.

 

ويتبلور فعل هذه النوازع في تقديم إجابات عن بعض الأشياء الغامضة في الكون وما وراءه من مُغيَّبات وخوارق يبقى موضوعها معقدا ًوشائكاً وغير مُفْضٍ إلى أية نتيجة نهائية مقنعة، مهما وقع التوسل بأدوات عقلية وآليات موضوعية نابعة من نظريات علمية وتصورات فلسفية. ولكن الغموض لا يلبث أن يتحول إلى وضوح واطمئنان في قلب المنتمين إلى الدين الذي عَرَض لهذه الأشياء، وعَرَض معها حلولها المُريحة لهم، والمُشْعِرة تجاهها بالغبطة والسعادة. وما إخال اللائكية وهي تُقر الدين في بُعده الفردي إلا منتهية ًإلى مثل هذه النتيجة وملتقية فيها بالدين

!!!


بين التحديث والدين

 

إن الدين على العموم ـ وهو هنا الإسلام ـ يُعتبر عنصراً أساسياً من بين العناصر المكونة للهوية الفردية والجماعية، من بيئة ولغة وثقافة، إن لم يكن هو المؤثر فيها والمكيف لها جميعاً. وأمام التطور الذي عرفته هذه العناصر على امتداد التاريخ، والذي يشهد اليوم طفرة نوعية، يبدو الفاعل الديني غير مواكب، فضلا عن أن يكون الرائد. والسبب ما يعانيه الفكر الديني المعاصر من سُكون نتيجة انزوائه ـ بل إقصائه ـ خلال فترات التأخر والانحطاط، ومنذ أُقفل باب الاجتهاد وأصبح الفقه الجاهز مرجعاً ملزما ًلا محيد عن قبوله كما هو، بدلاً من أن يكون إلى جانب مرجعيّته الاستئناسيّة، موضوعاً للتأمل والتدبر وإعادة النظر لإغنائه وتجديده. فكان أن وقع هذا الفكر في النقل والترديد، بعيداً عن فقه الواقع وتقدير المصالح وفق مقاصد الشرع، وعاجزاً بذلك عن الإجابة على كثير من القضايا الحيوية التي تثيرها المرحلة المعيشة، وغير مسعف بحرفيّته الجامدة في الاستجابة لتطلع المجتمعات الإسلامية إلى التنمية والتقدم، في تفاعل مع حركة هذه المجتمعات والآليات الفاعلة فيها.

 

وتلك عقبة كأْداء لن يتم اجتيازها ما لم تتم العودة إلى النصوص لقراءتها من جديد، وكذا لتأويلها بما يجعلها ـ في غير تعسف ـ تتلاءم مع مقتضيات الواقع، وتساعد على إيجاد الحلول المناسبة لمشكلات هذا الواقع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبما يجعل المسؤولين على هذه القراءة المؤهَّلين لها، قادرين على مواجهة كل الضغوط والنزعات المضادة الرَّاغبة بجهل في الإبقاء على حال الخمول والركود، وما ينتج عنهما من تزمت وتشدد هما بدورهما يفضيان إلى عدم إمكان تطبيق الدين على الوجه الصحيح، وكذا عدم توظيف تعاليمه وقيمه في شؤون الحياة عامة. ومن بين هذه الشؤون، إن لم يكن أهمها، إمكان الاندماج بظهور وتميز في المجال السياسي والاقتصادي الذي يعج بالأفكار والنظريات والتوجهات التي لا يُخْفي بعضها عداءه للدين، ليس كعقيدة، ولكن كمؤشر ينبغي أن يكون له دور في الحياة الخاصة والعامة، بما له من إمكانات الانخراط في عملية "التحديث" التي لا يخلو منها أي مجتمع، مهما يكن مستواه، ومهما يكن حظه منها في تطوير نفسه، باعتبارها, في مفهومها اللفظي العام، ظاهرة زمنية تكاد تكون حتمية.

 

ولست إلى هذا المفهوم أشير، ولكني أقصد التحديث في بعده التنويري الذي يبوئ الإنسان مكانة تكريميّة مرموقة في الكون، بعقله  ومعرفته وقدرته على التصرف لما فيه صالحه وصالح الكون كذلك، وفق ما تبشر به حداثة الغرب. والأسف أن هذه الحداثة التي يتطلع إليها المسلمون وجميع شعوب العالم الثالث لم تُفهم بعد على حقيقتها، وفي السياق الذي نشأت وتبلورت فيه، وإن كان واضحاً أنها وفدت في سياق الإمبريالية والاستعمار، إلى جانب ارتباطها بالأزمات التي اقترنت بمساوئ العولمة وانحرافات التكنولوجيا، والتي عبَّر الغربيون أنفسهم عن معاناتهم منها، سواء من حيث المادية المتوحشة، أو من حيث الأخلاق النابعة منها، في حرص على التحكم الفردي البعيد عن القيم، مما يهدد الإنسانية جمعاء.

 

وهو وضع بلورته الحرب الأمريكية التّدميريّة على العراق بتحالف مع بريطانيا ودول أخرى مساندة. وهي حرب انطلقت  من أصولية مسيحية صهيونية، في سعي إلى حماية إسرائيل وجعلها القوة العظمى في المنطقة، وسعي كذلك إلى الانفراد باستغلال الثروة النفطية، وإن بدعوى التحرير من نظام فاسد وإحلال آخر مكانه مؤسس على الديموقراطية، مع التساؤل عن أية ديموقراطية؟ وغني عن القول أن الديموقراطية –كالتحديث- ليست من قبيل السلعة التي يمكن أن تصدر أو تستورد، فضلا عن أن تفرض بجيوش غازية، ولكنها تتحقق بالاختيار الشعبي القائم على الاقتناع والإمكان، مما يعني أن تكون نابعة من المجتمع المؤهل لها والراغب فيها، ومستجيبة لحاجاته وطموحاته ومدى قابليته الفكرية والذهنية والنفسية. والأسف أن يصدر ذلك من الولايات المتحدة الأمريكية، البلد الذي   يفترض فيه أن يكون صديقاً للعرب والمسلمين بحكم  مصالحهم المشتركة، وكذا بحكم أنه ليس له معهم ماض استعماري من شأنه أن يعكر صفو التاريخ والعلاقات.

 

وهذا ما يجعل مشكل الحداثة في نهاية الأمر أعمق من أن يقتصر على الدعوة لاصطناع منجزات هذه الحداثة ـ فضلا عما بعدهاـ  لأنه يتوقف على إدراك أسبابها، وعلى إيجاد الآليات المساعدة بالبحث والنقد  على التمييز بين الملائم وغير الملائم، وعلى تكييف الملائم مع المعطيات الذاتية، في غير تعارض أو تناقض أو صدام. وهو ما يبدو أن الغرب لا يريد أن يساعد عليه المتشوفين لحداثته، حتى يظلوا مجرد مستهلكين لها غير منتجين. وربما كان السبب العميق في ذلك راجعاً ليس فقط إلى المصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية والرغبة في المحافظة عليها والتفرد باستغلالها، ولكن كذلك وبالدرجة الأولى إلى الاختلاف الثقافي، والديني على الخصوص.

 

ولست أدري ما الذي يحول بين التحديث في أي مجتمع، بما يكون خلفه ـ أي خلف هذا التحديث ـ من عوامل وما يصاحبه من تقدم، وما يرتبط به من قيم حضارية إنسانية، وبين أن يعايش خصوصيات ثقافية ـ دينية أو غيرها ـ يكون لهذا المجتمع بها متين الاتصال ووثيق الاعتزاز؛ وقد تكون له الحافز والدافع لتحقيق ما يرومه من تقدم. وبقدر ما يكون هذا التعايش قائماً في انسجام، تتسنى ظروف النقد والتصحيح بهدف التطوير والتغيير؛ وقبل ذلك تتاح إمكانية قبول هذه الظروف بكل ما يلازمها من شروط ووسائل وآليات. وهو ما لا يتيسر إلا بإيجاد ذهنية قابلة أو مستعدة للقبول، مع ما يواكب هذه الذهنية أو ينتج عنها من إرادة، بمرونة وسعة أفق، وبسعي إلى التوفيق المحكم الذي لا ترقيع فيه ولا تلفيق، وبرغبة بعد ذلك في التواصل مع الآخر، لتبادل الأخذ والعطاء معه، في غير تعصب ورفض أو انغلاق وتزمت، مما قد يصدر من الطرفين.

 

!!!


واقع الأنظمة العربية و الإسلامية

 

إن الواقع الفعلي للأنظمة العربية والإسلامية الحالية، لاسيما في الميدان السياسي، يكشف أنه باستثناء حالات معدودة ـ في طليعتها المغرب الذي يحافظ منذ ثلاثة عشر قرناً على إمارة المومنين وما تقتضي من شرط البيعة المعزز بالدستور ـ  فإن غير قليل من تلك الأنظمة تبرز توجهها اللائكي أو ميلها إلى المزج بين هذا التوجه وبين الدين.وهذا لا يمنع من   ملاحظة ظاهرة التعايش أو التصادم اللذين يبدوان في الفكر النظري الذي تسير عليه هذه الأنظمة أو تتستر خلفه، وهو مرتبط بالدين في الغالب. وهي حالة تبرز ميلا توفيقيّاً إن لم أقل انسياقيا ًللتيار اللائكي، بغض النظر عن وضوحه أو غموضه، وبغض النظر كذلك عن قبوله أو رفضه.

 

 ويبدو أن البحث في سبب هذا الواقع  يكتسي غاية الصعوبة والتعقيد، لارتباطه بمعطيات تاريخية وثقافية واجتماعية، محلية ووافدة، متسربة حيناً ومفروضة أحياناً كثيرة. وهو يحتاج من مختلف الأطراف المعنية إلى كثير من التحليل والتأمل للاقتناع والإقناع به، أو لنبذه وإبعاده.هذا بالإضافة إلى  كل ما يستلزم  الموقف الأخير من إيجاد البديل المناسب الصالح، ليس فقط لتدبير الشأن الداخلي في إطار دولة منظمة حديثة ببُعديها الأصيل والمعاصر، ولكن كذلك للتوسل به في التعامل مع الآخر الذي هو سائر على نهج مخالف يريد فرضه والإلزام به.

 

وإذا كان للائكية ما يبررها في مجتمع طائفي متعدد المعتقدات، فالأمر غير وارد بالنسبة لمجتمع بلد كالمغرب، معروف عنه أنه مجتمع مسلم مع أقلية يهودية محفوظة الحقوق، ربما لم يَعد يتجاوز عددها بضعة آلاف؛ ويفترض فيه أنه لا يوجد به مغربي واحد مسيحي، وإن بدأ التبشير يفرز حالات تنصيريّة ـ لعلها تتزايد ـ في غياب توعية إسلامية ملائمة، وكذا بسبب وجود وضع ثقافي وإعلامي واجتماعي يغري بالتمرد على الذات والمقومات3[2] ومن المهم أن يشار ـ زيادة  على ذلك ـ إلى اتفاق كل شرائح المجتمع وهيآته المختلفة على هويته الإسلامية.

 

وطالما أن المطلوب هو إعمال النظر والبحث والتحليل لاختيار أمر ما، لاسيما في واقع مختل التوازن ملئ بالتناقضات والمفارقات الغريبة، فإنه من غير المقبول أن يفرض هذا الأمر، ولو باسم مذهب أو تيار يرى نفسه الأقوى والأصلح، ويتطلع إلى التحكم في غيره بالقهر والطغيان، انطلاقاً من أفكار مسبقة عنه، واستغلالاً لمرحلة ضعف يجتازها، كما هو الحال اليوم مع الدول الإسلامية.

 

ومع ذلك، وعلى الرغم من أن هذه الدول تواجه تحديات كثيرة تعاني ويلاتها داخلية وخارجية، في سعي حثيث إلى رفعها، فإن عليها بالنسبة لمشكل تحريك آلية الدين في الحياة العامة، أن تبذل الجهد اللازم لمغالبة الصعاب التي تعترضها وتجاوز السلبيات التي تتخبط فيها. وتبدأ هذه السلبيات  من التقصير في التوعية الإسلامية، إلى تهميش العلماء، وتخلف المؤسسات، والعجز عن تطوير الفكر الإسلامي، خاصة ما يتعلق منه بقضايا السياسة والاقتصاد.

 

والحق أنه لمواجهة هذه السلبيات، ينبغي رصد التراكمات التاريخية التي تثقل كاهل المسلمين وتثبط عزائمهم وتعوق حسن تعاملهم مع الدين والتراث، وتجعلهم ـ نتيجة ذلك ـ يعانون صراعاً ذاتياً داخلياً يزيد في تعميقه النزاع مع غيرهم؛ دون إغفال خلافاتهم التمزيقيّة وما يُرْمَوْن به من تهم التطرف والإرهاب.

 

وهو واقع مرير يسد الآفاق ويشل الطاقات، ويؤدي إلى حالة تحول دون الوصول إلى جوهر الدين لإدراك مقاصده وغاياته، في غير جمود عند حرفية النصوص، وتحول بالتالي دون إيجاد خطاب إسلامي حقيقي معتدل ومتزن ومتفتح ومتجدد. وإذا ما تحقق هذا الخطاب وتسنى تبليغه، فإنه سيُتاح إبعاد لغة التطرف والإرهاب التي تستبد بالغرب وأجهزة إعلامه، وقبل ذلك سيتاحُ إبداع النموذج الإسلامي القادر بصلاحه وإقناعه على وقف تسرب أي تيار يظن أن مثل هذه الظروف العصيبة تسمح له أن ينتشر، فضلاً عن أن تيسر امتصاصه.

 

ولعل ضغط هذا الواقع بتحدياتـه المتلاحقة أن يولد وعيا ًجديداً يحث ـ رغم كل التشويش العالِق  ِبه ـ على مضاعفة هذا الجهد الذي ينبغي كذلك أن تسهم في إغنائه الأقليات الإسلامية التي تعيش متمسكة بدينها، في بلدان متقدمة كفرنسا.

!!!


الأقلية المسلمة في مجتمع لائكي

(فرنسا نموذجا)

 

وتبقى بعد هذا قضية كبرى موازية، لعلها على رأس ما يشغل بال المسلمين ؛ ويتعلق الأمر بوضعهم حين يكونون أقلية في مجتمع لائكي، كما هو الشأن بالنسبة للجالية الإسلامية التي تعيش في فرنسا، والتي اتخذت هذا البلد وطناً لها، بعد أن هيأ لأفرادها جميع ظروف العمل والعيش والاستقرار، بسهولة حيناً، وبصعوبة أحياناً كثيرة، على الرغم مما تثيره الهجرة اليوم من مشاكل.

 

وأود هنا أن أستحضر ما سبقت الإشارة إليه في البحث، من أن التشريعات والأحكام الفقهية الإسلامية غير ثابتة ولا جامدة، وأنها قابلة ـ في حدود سعتها ـ للتكيف مع الزمان والمكان والواقع الاجتماعي المتغير، ومحتاجة إلى ملاءمتها مع هذا التغير. كما أود أن أستحضر ما سلف ذكره حول تسامح الإسلام ومرونته ومعايشته لغيره، وتبلور ذلك في مظاهر كثيرة، أبرزها حرية الدين وتعدده في مجتمعات إسلامية يمثل فيها غير المسلمين أقلية.

 

في ضوء هذا الاستحضار، يمكن النظر إلى الوضع العكسي الذي يكون فيه المسلمون هم الذين يشكلون أقلية، كما هو الحال بالنسبة لوجودهم في فرنسا التي ينص دستورها في بنده الأول، على أنها جمهورية لائكية ديموقراطية واجتماعية، وأنها تضمن المساواة أمام القانون لجميع المواطنين بدون تمييز لأصلهم أو جنسهم أو دينهم، وأنها تحترم جميع المعتقدات.

 

ويمكن القول منذ البدء، بأنه ما دامت هذه الأقلية تستطيع أن تمارس علَنيًا دينها في هذه البلدان، فالطريق ممهد لتجاوز كل العقبات وحل جميع المشكلات التي تكون متصلة بوسائل تنظيم هذه الممارسة وضبط المقتضيات المرتبطة بها.

 

ولعل أول التباس ينبغي إزالته، هو المتعلق بالمصطلح الذي أطلقه الفقهاء على البلاد غير الإسلامية، حين نعتوها ب:"دار الحرب"، مقابل"دار الإسلام" التي يعنون بها بلاد المسلمين، وإن أصبح أمر "الحربية"معكوسا ًفي الظرفية الراهنة.

 

وعلى الرغم من أن المجال لا يسمح لي بالتوسع في هذه المسألة التي لا يخفى أساسها التاريخي، فإنه يمكنني القول بأنه لم يعد اليوم مجال لاستعمال مصطلح "دار الحرب"، لأسباب كثيرة يكفي أن أذكر منها ثلاثة:أولها أن الأصل في علاقة المسلمين مع غيرهم هو السلم. والثاني أن الإسلام ـ على الرغم من المعاناة الظاهرة والخفية لمعتنقيه ـ ليس في حرب مع هذه "الدار" التي لمعظمها اليوم مع الدول الإسلامية مواثيق صداقة وتعاون وشراكة. والثالث أن المسلمين فيها ـ سواء أكانوا مواطنين أم مجرد مهاجرين ـ مسموح لهم أن يظهروا فيها دينهم، ومُيَسَّرة لهم فيها ـ ولو إلى حد ـ جميع ظروف هذا الإظهار، رغم توجهها اللائكي، بِتعايش مع دين الأكثرية أو غيره من ديانات الأقليات الأخرى.

 

وأكاد أزعم أنه حين يكون النظام اللائكي هو السائد في البلاد المستقبِلة فإنه بتفريقه بين الدين والدولة واعتباره الدين أمراً شخصياً، يُفترض فيه أن يتيح مجالاً تسامحيّاً  يكون كافياً لكي تتساكن وتتعارف في أحضانه معتقدات متعددة، بدون أي تعصب أو تضييق، لاسيما بالنسبة للمسلمين الذين يعانون اليوم من الخصومة التي تواجههم بها أطراف معادية لهم ولدينهم، متسترة خلف نظرية مذهبية أو عقيدة دينية.

وعندي أن الفكر المتعايش في هذا المجال يمكنه أن يتقوَّى، خاصة حين يكون البلد الذي يُؤْويه رمز تقدم حضاري وثقافي ومركز إشعاع تنويري، كما هو الحال في فرنسا. ومن ثَم فإن على الفكر الإسلامي أن يستفيد ـ ليس فقط من تلك الأبعاد التقدمية والتنويرية ـ ولكن كذلك من الاحتكاك الإيجابي بفكر الديانات الأخرى التي تشاركه الوجود في هذه البيئة.وفي هذا الإطار، ينبغي التحفظ بحذر واحتياط من بعض الكتابات التحريفية التي تنشر حول الإسلام والقرآن، مستغلة مجال النشر الحر في فرنسا.

!!!
إظهار الإسلام في هذا المجتمع

 

إن الحديث عن إظهار المسلمين لدينهم في مثل هذا الوضع، يفترض مبدئياً أنهم لا يتعرضون ـ باعتبارهم مواطنين أو مهاجرين ـ لأي موقف عدائي قد يفتنهم عن ممارسة شعائرهم،أو يهددهم بمس حقوقهم؛ على الرغم من الظرفية الدولية الراهنة التي جعلت بعض التيارات المتعصبة تلقي على الإسلام ومعتنقيه تهمة الجرائم الإرهابية التي تعرفها كثير من مناطق العالم.

 

وهم في  نطاق هذا الإظهار، وفي مقابله، ينبغي أن يلتزموا بكل أوجه اليُسر والتسامح التي دعا إليها الإسلام، سواء فيما يتعلق بأداء التكاليف، وإن باللجوء إلى الرُّخَص الفقهية وما تكون إليه ضرورة، أو في مُساكنة غيرهم من أهل الديانات الأخرى، وخاصة أهل الكتاب، بأكل طعامهم والتزوج من نسائهم، وكذا إجراء كل المعاملات معهم، ما  لم  يكن فيها تعارض مع روح الإسلام وأصوله.

 

وهذا مظهر للاندماج المجتمعي ينبغي أن يتم في حرص على التزام وسطية الإسلام واعتداله، والابتعاد عن الآراء الشاذة والمتشددة والخلافية، وتجنب المواقف المتشنجة والمتطرفة. وإن من شأن مثل هذا السلوك أن يحث على استغلال جو الحرية المتاح لفتح الحوار الدائم مع الآخر، بحثاً عن المزيد من التفاهم وتجاوز الاختلاف ومحو آثاره السلبية.

 

وهو سلوك سيُفضي بهم لاشك إلى مراعاة الأنظمة المحلية، وما تكون عليه من ليبرالية وديموقراطية وتعددية سياسية ودينية؛ مع احترام متطلبات هذه الأنظمة والعمل على إيجاد عناصر الالتئام والانسجام معها ومع القوانين التي تضبطها، بغاية تحقيق الحياة المشتركة في المجتمع، رغم اختلاف العقيدة. يُضاف إلى ذلك ما يَلَْزَم من سعي ٍحثيث إلى التكيف مع معطيات الحضارة التي يعيشون في رحابها ويمارسون مظاهرها، دون نسيان الصِّلات الوثيقة بين الحضارتين الأوروبية والعربية الإسلامية، وما كان لهذه الصلات من دور في إبداع حضارة متوسطية ما أشدَّ الحاجة اليوم إليها وإلى قِيَمها، حماية للإنسانية من عوامل التدمير المهدِّدة.

 

وعلى النحو الذي حاول المسلمون به خلال تاريخهم الطويل، أن يوفِّقوا ـ بنجاح تارة وبفشل أخرى ـ بين الدين والمُسْتَجَدَّات المتلاحقة، سواء أكانت فكرية أم مادية، فإن على أبناء الجالية الإسلامية في فرنسا وغيرها أن يحاولوا هذا التوفيق. ولعل حظوظهم في النجاح، بسبب ما سبق ذكره، ستكون أوفر وأقوى مما حققه الآباء والأجداد؛ مع استبعاد كل تفكير يفضي إلى الظهور ب"إسلام جديد"  أو إلى الإغراء بهذا الظهور، لأن الإسلام هوهو، وليس قديماً أو جديداً إلا الفكر المرتبط به، أي الفكر الذي ينتجه المسلمون، وما أحوجهم إلى تجديده.

 

وغَنِيٌّ عن القول أن هذا السلوك سيؤدي حتما ًإلى استبعاد أية فكرة أو محاولة لإنشاء كِيان إسلامي مستقل، أي دولة داخل الدولة، في اقتناع بأن الهدف هو الاندماج في هذه الدولة وليس الانفصال عنها، على أن يتم ذلك بتعاطف وتسامح مع سائر فئات المجتمع، وفي إطار المحافظة العلانية على الهوية، وإعطاء أهمية للدين باعتباره يمثل العنصر الأساسي والفاعل في هذه الهوية.

!!!


بين الاندماج والحفاظ على الهوية

 

وحتى تتحقق هذه الغاية في مَنْأى عن أي تحريف، فإن الحاجة ستكون ماسة إلى تمكين الأقلية الإسلامية من الأدوات والآليات اللازمة لذلك، كتيسير أداء فريضة الحج، وحل المشاكل المرتبطة بالأحوال الشخصية،   وكإقامة المساجد والمدافن ومجازر للذبح الحلال، وكذا أماكن الاجتماع والتعليم بما يسهِّل تلقِّي تعاليم الدين و تلقين لغة الفرقان الكريم التي هي العربية، ويتيح تواصل المسلمين فيما بينهم وحتى مع غيرهم. . ويدخل في نطاق هذه المرافق، إنشاء المكتبات وتوفير الكتب وما إليها من وسائل حديثة، وكذا السماح بعقد اللقاآت وتنظيم الأنشطة الدينية والعلمية والفنية. هذا إلى جانب الاندماج في التعليم العام الذي هو الكفيل بتحقيق المواطنة وحفظ المصالح. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الاندماج لا يتعارض مع إيجاد صيغة إدارية توفيقية بين الإجراآت المتعلقة بالأحوال الشخصية وفق الشرع الإسلامي، ومقتضيات الحالة المدنية، وقوانينها المحلية؛ مع العلم أنه سبق توقيع اتفاق بهذا الشأن بين المغرب وفرنسا عام 1981.

 

 والحقيقة أن بلوغ هذه الأهداف يتطلب تكوين الأطر وإعدادها للقيام بها وتسييرها، مع البحث عن وسائل الإنفاق عليها، إن كان على الجالية أم على الدولة التي تؤويها والتي تقع عليها بدون شك مسؤولية تنظيمية، أم على الدولة الأم التي لا ينبغي بأي حال أن تتخلى عن واجباتها في كل ذلك. بل إنه ينبغي ألا يكون اهتمامها بالمهاجرين مقصورا ًفقط على تحويلاتهم المالية، ومحصوراً في مواسم معينة، كمناسبة عودتهم لقضاء العُطل وما يكون لهم فيها من حُسْن استقبال، أو مناسبة شهر رمضان من خلال إيفاد بعض الوعاظ.

 

ومعروف أن أي تقصير في هذا المجال يقود إلى مدِّ اليد لجهات أخرى خارجية لا تتأخر عن تقديم المساعدة، شريطة اعتناق الأفكار والمبادئ التي تُرَوِّج لها، والتي غالباً ما تؤدي إلى التشويش والبلبلة، إن لم تُؤَدِّ إلى اتخاذ مواقف غير سليمة.

 

ولعل الأمر في مجموعه متوقف على نوع النظام الذي تتبعه دولة الإيواء في التعامل مع الجالية، إن كان إشرافاً مباشراً أو غير ذلك؛ مما هو خاضع ـ ككثير من القضايا ـ إلى طبيعة العلاقات بين الدولة المستقبِلة والدول التي ينتمي إليها أبناء هذه الجالية، وما لها معها من اتفاقات. وغالباً ما يسهل الأمر حين يكون هؤلاء قادرين على تنظيم أنفسهم. وهو ما لا يتسنى إلا بالترفع عن النزاعات فيما بينهم، وتجاوز الخلافات المذهبية والسياسية التي يعيشها المسلمون في أوطانهم الأصلية؛ إذ هم في هذه الحال، سوف يحوُلون دون أي تدخل خارجي، أو على الأقل سيخففون وطأته إن وقع.

 

ولاشك أن من شأن مثل هذا التنظيم أن يجعلهم أكثر انشغالاً، ليس فقط بالمسائل الدينية، ولكن أيضا ًبالقضايا ذات الصلة بالمجتمع والاندماج فيه، كالمشاركة السياسية، والإسهام في المؤسسات المنتخبة، وأجهزة الإعلام، وجميع ما يقود إلى نيل الحقوق وأداء الواجبات.

 

ومن المؤكد أنه توجد في ساحة الواقع والممارسة صعوبات كثيرة هي التي دفعت الحكومة الفرنسية، عبْر وزارتها في الداخلية، أن تسعى إلى إيجاد نظام مركزي للدين في فرنسا، وإحداث مجلس فرنسي للدين الإسلامي ينتخب مع أجهزته الإقليمية، باتفاق مع المؤسسات الإسلامية الكبرى المَعْنِية بهذا المجال. وهو ما قد يتحقق على النحو الصحيح، إذا ما تم هذا الاتفاق في إطار التوفيق السليم بين مقتضيات الدين ومتطلبات طبيعة الدولة التي هي في حقيقتها وبحكم لائكيتها الدستورية لا ينبغي أن تتدخل في شأن الدين، ما لم يطرأ تعديل على الدستور يمس هذا الشأن، مما قد يصبح به للمسلمين وضع آخر. و لعلي في غنى عن الإشارة الى أن المغاربة المتمتعين بالجنسية الفرنسية –أو أية جنسية أخرى- لا يفقدون جنسيتهم الأصلية؛ مما يقتضي احترام مواطنتهم المغربية بكل مكوناتها التي يشكل الدين أهمها، مما يقوي الارتباط الوثيق الذي لهم مع السلطة الدينية العليا المتمثلة في إمارة المؤمنين.

 

إلا أن ما يلزم استذكاره في هذا الوضع، هو أن الصعوبة تزيد حين يتعلق الأمر بأبناء الجيل الثالث الذين يحملون جنسية بلد الإقامة، ويعتبرون أنفسهم مواطنين فيه، ويتطلعون بهذا للاندماج في مجتمعه، ولكنهم إلى جانب ذلك يتمسكون بهويتهم الثقافية، ويطالبون بالاعتراف لهم بها، تحفزاً من اللغة والدين.

 

ويبدو لي في الختام، أنه ليس صعباً على دولة لائكية صديقة للدول الإسلامية ـ كفرنسا ـ أن تبحث أو تساعد على البحث عن الكيفية المثلى والناجعة لإدماج المسلمين في مجتمع هم بأعدادهم ومؤهلاتهم يساهمون في تشكيله وبنائه.

 

عباس الــجـراري

 

 

 

!!!



1 يلاحظ أن بعض المعاجم الإنجليزية تترجم مصطلح "لائكية"، Laïcité الفرنسي، ب Secularism، الدال على العلمانية، في حين أن معاجم أخرى- و الموسعة على الخصوص- تترجمه ب Laicism  مع الإشارة إلى Secularism

 

2 انظر بحث الكاتب عن "مكانة المقدس في الثقافة المعاصرة"(نشر منظمة الايسيسكو بالعربية والفرنسية والإنجليزية1424/ 2003م

 

3 للكاتب فصل عن هذه الظاهرة ضمن بحثه المخطوط عن"الواقع الإسلامي بالمغرب"