دور الرباط  في سياق الحركة الوطنية

ومقاومة الاستعمار

 

 

 

 

 

مستخرج العرض المرتجل الذي شارك به الجراري في الندوة التي نظمتها جمعية رباط الفتح مساء الجمعة  22 رمضان 1422 ه الموافق 27 مارس 1992 م بقاعة الأفراح بولاية الرباط .

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

 

 

أصحاب المعالي والسعادة

حضرات السيدات والسادة

 

 

ليس من شك في أن  موضوع "المقاومة "سواء منها الفكرية الداعية إلى الإصلاح، أو السياسية المرتبطة بنشاط الحركة الوطنية ، أو المسلحة المتمثلة في الأعمال الفدائية ، يكتسي أهمية بالغة ، لاتصاله الوثيق بالكفاح الوطني الذي عرفه المغرب على مر التاريخ، للذود عن كيانه وحريته ورد المعتدين عليه، مما يجعل المقاومة ظاهرة رافقت المغاربة أو رافقوها منذ عهود ما قبل الإسلام، لتتابع في مختلف العصور، قبل أن تتبلور في مواجهة الحماية,

 

 

إلا أن تناول هذا الموضوع  لا يخلو من صعوبة، شأنه كشأن كثير من جوانب الحركة الوطنية وتاريخها، بل تاريخ المغرب عامة, والسبب كامن في قلة الوثائق وضعف الذاكرة، وفي اضطراب بعض الروايات،مما يشكك في بعض ما يكتب، إن لم يكن في كثيره، مما حاد به مدونوه عن الحقائق، إما تعصبا ناتجا عن هوى في النفس وانحياز لمدينة أو إقليم أو هيئة، وإما جهلا بما في جهات أخرى؛ علما بأن ظاهرة المقاومة لم تنفرد بها منطقة معينة أو فئة محدودة، إذ المغاربة جميعا وفي مختلف أرجاء الوطن ساهموا فيها، وإن مع تفاوت تبرز به بعض الريادات,

 

ومن ثم تبقى الحاجة ماسة إلى لم شتات التاريخ الوطني بجميع وثائقه ومستنداته، ودراستها في سياقها الحق[1], ومن ثم كذلك جاءت العناية عندي بالمقاومة في الرباط أيام الحماية، لما كان لهذه المدينة من دور كبير وحظ وافر فيها، ولما يتميز به هذا الدور من سبق في بعض المجالات، وبحكم مركزية الرباط وكونها عاصمة تحتضن مقر ملك البلاد والمخزن والإقامة العامة وسائر الإدارات،ولأن تاريخ هذه الظاهرة  لا يمكن أن يعرف أو يكتب بموضوعية وإنصاف إلا إذا وقع البحث عنه في مختلف الأنحاء وما كان لها من مساهمة في إغنائه,

والحديث عن المقاومة في الرباط أو غيرها، وثيق الصلة بالكفاح الوطني،إذ يعتبر مرحلة أساسية في مسيرته التي تكشف موقف المغاربة من الحماية الفرنسية والإسبانية، في سياق عوامل كثيرة، هذه أبرزها:1 ـالأحداث الدامية التي رافقت

 

الحماية منذ البداية,

2 ـ استمرار المقاومة المسلحة إلى منتصف الثلاثين، في الشمال بقيادة الشريف محمد أمزيان وأحمد الريسولي ومحمد بن عبد الكريم الخطابي، وفي الجنوب بقيادة علال الحجاميي وسيدي رحو ومحا اوحمو الزياني والشيخ ماء العينين وابنه أحمد الهيبة والشريف السملالي وأبي القاسم النكادي,

3 ـ ظهور المقاومة الفكرية،عبر السلفية الإصلاحية التي تزعمها الشيخ أبو شعيب الدكالي وتلاميذه، والتي كان لها أكبر التأثير في تنوير الرأي العام الذي كان يومئذ غارقا في الفكر الخرافي والشعوذة والانحراف,

4 ـ قيام الحركة الوطنية التي تمخضت في الشمال والجنوب عن أحزاب سيرد ذكرها بعد، والني مر عملها بثلاث مراحل:

     ا ـ السعي إلى تحقيق بعض الإصلاحات

     ب ـ المطالبة بالاستقلال

     ج ـ التضحية من أجل الاستقلال

5 ـ نفي الملك المجاهد محمد بن يوسف وأسرته الشريفة إلى كورسيكا ومدغشقر في 20 غشت 1953 م، بعد أن تأكد إصراره على الاستقلال ورفضه لكل مساومة عليه,

6 ـ عودة المقاومة المسلحة متمثلة في حركة الفداء التي اندلعت في مختلف المدن والأقاليم، رافضة سياسة اللاشرعية، ومنادية بعودة"ابن يوسف إلى عرشه"وبمطلب الاستقلال,

 

7 ـ رجوع بطل التحرير الملك المغفور له محمد بن يوسف ( محمد الخامس ) يوم 16 نونبر 1955 م،يحمل بشرى انتهاء عهد الحجر والحماية، وبزوغ فجر الاستقلال والحرية,

 

خلف هذا الموقف وتطوره، يكمن الوعي الجديد الذي ظهر بدءاً من سنوات العشرين، والذي يرجع الفضل فيه إلى أسباب غذته مباشرة، من بينها:

1 ـالثقافة الجديدة التي بدأت تنتشر، تأثرا بالتوجه الإصلاحي والاحتكاك بالشرق، وفي سعي إلى التحديث,

2 ـ العناية بالتعليم العربي الحر الذي كان يحظى بإشراف سام ورعاية خاصة من جلالة الملك محمد بن يوسف، على الرغم من المضايقات التي كان يعانيها من إدارة الحماية,

3 ـ ظهور صحافة وطنية كانت اللسان المعبر عن الثقافة الجديدة وعن التطلعات المغربية,ومن أهمها في الجنوب مجلة"المغرب" التي كان يديرها محمد صالح ميسة ( 1932 )،وجريدة"الأطلس"التي أنشأتها الكتلة عام 1937 ،وجريدة"المغرب" التي أسست في نفس العام، والتي كان يديرها سعيد حجي,وفي الشمال ظهرت سنة 1933 مجلة"السلام" التي كان يشرف عليها محمد داود ،وجريدة"الحياة"التابعة لحزب الإصلاح (1934 ) ، ومجلة"المغرب الجديد"التي كان على رأسها المكي الناصري (1935 )، ثم جريدة"الحرية"التي كانت لسان هذا الحزب (1937 )،وجريدة"الوحدة"في العام نفسه، وكانت ناطقة باسم حزب الوحدة,وقد توجت هذه الصحف بجريدة"العلم" عام 1945 ومجلة"رسالة المغرب" في 1947، وكانتا تصدران عن حزب الاستقلال، وكذا جريدة"الرأي العام"في هذا العام نفسه، وكانت لسان حزب الشورى والاستقلال,

4 ـ إحداث الاحتفال بعيد العرش عام 1933 بصفة غير رسمية، ثم في العام الموالي بشكل رسمي و شعبي,وقد كان هذا الاحتفال مناسبة متفردة للتحرر من كل قيود الاستعمار، والإعراب عن العواطف الوطنية،سواء عبر المهرجانات الشعبية،أو من خلال تعبير الشعراء والكتاب؛ إضافة إلى"خطاب العرش"الذي كان المواطنون يتلقفونه بلهفة شديدة وآمال عريضة يعلقونها عليه,

 

في هذا السياق، وتحت تأثير مختلف العوامل الوطنية الفاعلة وما كانت تواجه به من ردود فعل استعمارية، عرفت المرحلة أحداثا مختلفة، تكفي الإشارة من بينها إلى ما كان له تأثير كبير على سياق الحركة الوطنية، مع الإشارة إلى أن الرباط كانت المجال المركز لمعظم هذه الأحداث، وأن رباطيين كثيرين ساهموا فيها بإيجاب,

 

فمن بين الوقائع الأولى يذكر إحداث ضريبة"لكيام"سنة 1921 بالرباط، حيث نظمت مظاهرة لمناهضتها,كما توجه وفد لمقابلة الملك المغفور له محمد بن يوسف، والإعراب له عن موقف السكان من هذه الضريبة,وقد امتحن في هذا الحادث بعض الرباطيين، وهم: الحاج محمد البحراوي الذي نفي إلى الصويرة،وأبو بكر بلكورة الذي نفي إلى أسفي، والحاج المعطي جوريو الذي انتقل إلى طنجة ثم إلى البادية، والمحجوب الأزرق الذي نفي إلى الجديدة, كما امتحن فيه بعض الأفراد من سلا، وهم: عبد الله بنسعيد الذي نفي إلى وجدة، ومحمد بنعيسى لعلو الذي نفي إلى أسفي,

 

وفي سنة 1926 ، أسست"الرابطة المغربية"، باعتبارها جمعية وطنية لها أهداف ثقافية ورياضية, وقد تم ذلك في عرصة جسوس بالرباط يوم 22 محرم 1345 ه الموافق 2 غشت 1926 ؛ وكان شعارها:"أنصار الحقيقة", ومن بين أعضاء مكتبها يذكر الحاج أحمد بلافريج ومحمد الفباج ومحمد بنونة والمكي الناصري, وكانت لها فروع في طنجة وتطوان التي كان المشرف على فرعها هو الحاج عبد الشلام بنونة,

ثم تكونت جماعات أخرى، أبرزها:"الزاوية"و"الطايفة"

بعد ذلك وقع حادث الظهير البربري (الصادر بالجريدة الرسمية في 16 مايو 1930 ) الذي وقف المغاربة ضده، والذي كان والدنا رحمه الله خطيبه وسجينه ومبدع شعار مناهضته بهذه العبارة:"اللهم يا لطيف نسألك اللطف فيما جرت به المقادير ولا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر",وبالمناسبة قدمت عرائض وشكايات من جهات وشخصيات مختلفة إلى جلالة السلطان المغفور له محمد بن يوسف,

وفي عام 1933 م تأسست الكتلة لتحضير خطة الإصلاح

وفي 1353 ه الموافق 1934 م قدمت الكتلة" مطالب الشعب" بواسطة وفد رفعها إلى جلالة الملك كما كان مقررا عقد مؤتمر طلبة شمال إفريقيا في الرباط، وحين رفض المؤتمرون رئاسة المقيم العام الفرنسي، منع عقده، فاجتمع الطلبة في بساتين: بالرباط في عرصة جسوس، وفي البيضاء برياض الرويسي، وبعد ذلك بفاس في رياض الشقشاق,

 

وفي يوم 3 غشت 1936 رفعت الكتلة مذكرة إلى عدد من المسؤولين الفرنسيين في حكومة الجبهة الشعبية بعد أن تولت زمام الحكم، وكذا إلى مجلسي النواب والشيوخ والكاتب العام للحزب الاشتراكي, وقد ختمت المذكرة بهذه العبارة:"وإنا لنطالب باستعجال للجائعين بالخبز، وللطبقات العاملة بالشغل، وبتطبيق القوانين الاجتماعية الفرنسية، ولعموم الشعب بالمدارس وبحرية الصحافة وحرية الاجتماع",

 

في العام نفسه، وبمجرد تعيين نوجيس مقيما عاما لفرنسا في المغرب، قدمت الكتلة"دفتر المطالب المغربية" مصحوبا برسالة مؤرخة في 17 سبتمبر من هذا العام,

 

وعلى إثر انعقاد المؤتمر الأول للكتلة بتاريخ 25 أكتوبر 1936 في دار إدريس بن زاكور بفاس، أعلنت"المطالب المستعجلة" قرأها علال الفاسي، وأرسلت إلى جلالة الملك والمقيم العام، مع برقيات وقعها محمد القباج والعربي الدسولي,

 

كما نظم مهرجان مماثل للكتلة في مدينة سلا يوم 10 نونبر 1936، قرأ فبه أبو بكر القادري نص المطالب، ووجهت كذلك برقيات,

وفي 4 يناير 1937 احتجت الكتلة على إحداث ضرائب جديدة على الأسواق وتجار المواد الأساسية,

 

وبعد اجتماع مع المقيم العام يوم 18 مارس 1937 بفاس، وافق الوطنيون على حل الكتلة الذي يبدو أنه تقرر في قبراير من العام نفسه،على أن يفكر في تأسيس حزب جديد، فأطلق على الكتلة اسم "الحركة الوطنية لتحقيق المطالب"، ثم في 22 يوليوز من العام نفسه أسس"الحزب الوطني لتحقيق المطالب" بزعامة علال الفاسي, ثم تأسست"الحركة القومية" بزعامة محمد بن الحسن المزاني, أما في الشمال فأعلن عن ميثاق وطني وتأليف جبهة من حركة"الوحدة المغربية"التي أسسها المكي الناصري، و"حزب الإصلاح الوطني"بزعامة عبد الخالق الطريس،بهدف الدفاع عن استقلال المغرب واسترجاع وحدته الترابية وإلغاء الحماية,

 

وقد عرفت هذه السنة (1937 ) جملة اعتقالات في صفوف الوطنيين من مختلف المدن والأقاليم,

 

كما شهدت حوادث"بوفكران"بمكناس،دفاعا عن الماء، ابتداء من الخميس 2 سبتمبر 1937 ,ومن الذين سجنوا فيها: أحمد بن شقرون  ومحمد برادة وإدريس المنوني ومحمد بن عزوز ومحمد السلاوي,

 

وفي يومي 24 و 25 سبتمبر من هذا العام وقعت حوادث في مراكش، بسبب تقديم الصناع مطالب إلى المقيم العام، وتجمعت مظاهرات ورفعت لافتات تنادي بالحرية، وإطلاق سراح المعتقلين، وبضرورة تقديم المعونة للصناع,وكان عدد المعتقلين قد بلغ نحو خمسمائة فرد,كما وقعت حوادث واعتقالات في عدة مدن، وحتى في البوادي؛ وقدمت عرائض احتجاج كثيرة,

 

وفي أكتوبر 1937، ألقي القيض على كثير من رجال الحركة الوطنية، ونفي علال الفاسي إلى الكابون،، وفرضت الإقامة الإجبارية بقصر السوق وبوذنيب في جنوب المغرب على محمد بن الحسن الوزاني، ومحمد اليزيدي، وعمر بن عبد الجليل،وأحمد مكوار؛ ورحل أحمد بلافريج إلى تطوان، ومنها إلى برلين، ولم يعد إلا عام 1943 م ,

 

ومع ذلك، حين أعلنت الحرب العالمية الثانية يوم 3 سبتمبر 1939 م، اضطرت فرنسا إلى سواعد المغاربة للدفاع عن حريتها، فوقفوا إلى جانبها مستميتين، بعد أن ألقى جلالة الملك خطابا دعا فيه إلى مساندة الدولة الحامية والوقوف إلى جانبها, وهو موقف أيده الحزب الوطني على الرغم من أن أكثر قادته كانوا غائبين,

 

وفي يونيو 1940 م وقعت أحداث وطنية في تطوان على إثر رواج فكرة إسبانية تتلخص في تسليم الساحل المغربي الممتد من سبتة إلى طنجة للدولة الإسبانية مقابل تنازل إسبانيا عن مدينة مليلية وإعادتها للمغرب وهكذا انطلقت في يوم الثلاثاء 17 يونيو مظاهرة من معهد مولاي المهدي لم تلبث الجماهير أن انضمت إليها, كما رفعت حركة الوحدة المغربية على لسان الشيخ محمد المكي الناصري في 18 يونيو مذكرة إلى الخليفة السلطاني، لفضح هذه المؤامرة وقطع الطريق عليها, وعلى هذه المذكرة، استند الخليفة في الكشف عن معارضة الحركة الوطنية للمشروع الإسباني,

 

وفي يوم الجمعة 20يونيو  ( 15 جمادى الثانية 1359 ه ) حدث تجمع كبير بالمسجد الأعظم خطب فيه محمد المكي الناصري وعبد الخالق الطريس,كما نظمت تجمعات مماثلة في سائر مدن الشمال بتنسيق بين حزب الإصلاح وحزب الوحدة المغربية, وبمناسبة هذه الأحداث نشرت جريدة"الوحدة المغربية"افتتاحية بقلم الناصري عنوانها"قبح الله الحماية فهي جناية ما فوقها جناية"

 

وفي ثامن نونبر 1942 م نزلت بالمغرب جيوش الحلفاء (إنجلترا وأمريكا),

وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، عقد مؤتمر أنفا بالدار البيضاء يوم 17 يناير 1943 م، بحضور روزفلت وتشرشل ونوجيس، إلى جانب جلالة الملك محمد بن يوسف وولي عهده يومئذ جلالة الملك الحسن الثاني تغمدهما الله بواسع رحمته, وخلال المأدبة التي أقامها الرئيس الأمريكي روزفلت لجلالة الملك وولي عهده يوم 22 يناير، وعد جلالته باستقلال المغرب، مكافأة له على وقوفه إلى جانب التحرر، وما قدم من دماء أبنائه في سبيله,

وفي خامس يونيو 1943 م عين جابرييل بّيو مقيما عاما بدل نوجيس, وقبل تعيينه كان في لبنان؛ وهو الذي حل البرلمان، وقبض على أعضاء الحركة الوطنية اللبنانية، رغبة في إبقاء نفوذ الانتداب, وكان هذا التعيين نذيرا بما سيقع من قمع,

 

وبالفعل، فإن شيئا مما وعد به المغرب في أنفا لم يتحقق، مما حث على المطالبة بالاستقلال، بتقديم وثيقتها يوم الثلاثاء 14 محرم 1363 ه الموافق 11 يناير 1944م،باسم حزب الاستقلال الذي ظهر بالمناسبة، وقدمت وثيقة أخرى باسم"الحركة القومية" يوم 13 يناير، إذ قدمها وفد كان يضم من بين أعضائه عبد الهادي الشرايبي وعبد الهادي بوطالب, أما زعيم الحركة محمد بن الحسن الوزاني فكان في المنفى يومئذ,

 

وقد نتجت عن تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال أحداث دامية شهدتها الرباط يوم 29 من الشهر نفسه [2]

بعد الأحداث الناتجة عن تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال ، ولتهدئة الجو بعض الشيء،تم في 30 مارس 1946 تعيين مقيم عام جديد هو إيريك لابون الذي ستتم في فترته رحلة جلالة الملك إلى طنجة,

وهي الرحلة التي تمت يوم عاشر أبريل 1947 م وكانت قد سبقتها يوم سابع أبريل أحداث بالدار البيضاء لعرقلتها, وقد تميزت هذه الرحلة بالخطاب الملكي الذي أبرز فيه العاهل المجاهد رحمه الله أن حق المغرب لن يضيع، "فما ضاع حق من ورائه طالب",وفيه تحدث عن توحيد كلمة العرب وتأسيس الجامعة العربية لجمع كلمتهم شرقا ومغربا,

 

بعد هذه الرحلة الميمونة صدرت نشرات ضد جلالة الملك مما عمل على تسميم الأجواء، كما عين الجنرال جوان في مايو من العام نفسه مقيما عاما, ومعه بدأت مرحلة جديدة اتسمت بالتسلط والتعسف والتهديد, وقد تم هذا التعيين باقتراح من وزير الخارجية الفرنسية يومئذ جورج بيدو،وموافقة رئيس الحكومة راماديي الذي قال إذذاك في اجتماع مجلس الوزراء:"إن السلطان الذي هو رجل سياسة كبير،سيفهم وينبغي أن يعرف أنه يمكن عزله من قبل فرنسا,لذلك يحتاج إلى عسكري",

 

وكان أول عمل قام به الجنرال جوان هو محاولة تنظيم البلديات وإجراء انتخابات، إلا أن السلطان رفض، لأن الجنرال كان يريد أن يكون التمثيل مناصفة بين المغاربة والفرنسيين، مع أن عدد هؤلاء كان لا يتجاوز يومئذ 350 ألف ,

 

وفي أكتوبر 1950 م تمت زيارة جلالة الملك لفرنسا بدعوة من رئيس جمهوريتها فنسان أوريول، وقدم جلالته مذكرة تتضمن تبديل عقد الحماية بعقد صداقة,

وفي دجنبر من العام نفسه أحدث مجلس شورى المقيم حيث تم طرد أحمد اليزيدي ومحمد الغزاوي والعراقي، مما دعا جماعة من أعضائه إلى الانسحاب تضامنا معهم,

 

وفي الحفل الذي دعا إليه المقيم العام بمناسبة رأس السنة الجديدة، نودي بمقاطعته وعدم حضوره, ومن الذين  أوذوا بسبب تعرضهم للمدعوين : التهامي بن الراضي ومحمد عليوة، إذ حكم على الأول بشهر سجنا وعلى الثاني بثلاثة أشهر,

 

لقد تميز عهد الجنرال جوان بالعنف،إذ ألقي القبض في عام 1951 م على عدد كبير من رجال الحركة الوطنية، كما تميز بالتضييق على جلالة الملك وتهديده إن هو لم يتخل عن الوطنيين، يالتنازل عن العرش، وبالخلع إن هو لم يتنازل,

 

وإمعانا في هذه السياسة تم تعيين الجنرال كيوم في أكتوبر 1951 م مقيما عاما لفرنسا في المغرب,وفي أول لقاء معه قال له جلالة الملك:"قد يكون التمسك بالمبدأ عيبا في نظر بعض الناس، ولكنه شرف عندنا",

 

وهكذا اشتدت الأزمة بين القصر الملكي والإقامة العامة، وتم حل الديوان الملكي، واقتضى نظر الإقامة توظيف أصحابه بإعادتهم إلى الوظائف التي كانوا فيها قبل؛؛ وكان من بينهم:

ـــ محمد بن العباس القباج الذي عين كاتبا بمحكمة الدار البيضاء ,

ــ بناصر بن عمر الذي وظف في فاس,

ولكن هذه الأزمة لم تزد جلالة ابن يوسف إلا قوة وثباتا, وهو ما أعرب عنه في خطاب العرش لهذا العام ( 18 نونبر 1951 ) ، إذ تحدث عن" الثبات على المبدأ، والمثابرة والصبروالمصابرة, فبدون كد واجتهاد ، لا يرجى أدنى صلاح ولا ينال فوز ولا فلاح", وفيه قال طيب الله ثراه:"جرت سنة الله في خلقه بامتحان الأنبياء والصديقين وفتنة المخلصين والمصلحين، ليبلوهم أيهم أحسن عملا,قال تعالى:(أحسب الناس أن يتركوا أ، يقولوا آآمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين), وكفى بسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام برهانا ساطعا ونبراسا نيرا لامعا, أوذي صلى الله عليه وسلم فما وهنت عزيمته ولا ضعفت حجته، ولا استكانت في الحق صرامته, التفت في أحرج المواقف إلى عمه حين عرض عليه المال والجاه ليتخلى عن تبليغ الدعوة، فقال: ( والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر أو أهلك دونه ما تركته), بهذه العزيمة القوية والهمة العلية وبحلمه الكامل وعفوه الشامل استطاع صلى الله عليه وسلم أن يهزم الباطل بدامغ حجته، فكان النصر في النهاية حليف دعوته",

 

وفي آخر هذا العام، وعلى إثر إعلان استقلال ليبييا يوم 24 دجنبر 1951 م، وتهنئة جلالة ابن يوسف ملك ليبيا محمد ابن ادريس السنوسي الأول، تعرض بعض خطباء الرباط لهذه المناسبة يوم الجمعة 28 دجنبر ودعوا للدولة المستقلة, وهم:

ــــ أحمد بن الغازي نائب القاضي وخطيب الجامع الكبير

ــــ الصديق الشدادي عدل وخطيب مسجد قصبة الودايا

ـــ محمد بن عبد الله مدرر وخطيب الزاوية الناصرية

فحقق معهم المندوب المخزني  بّاوليني، متهما إياهم بالتدخل في السياسة، فنفوا أن يكونوا تعرضوا لها، وقالوا إن ذلك من الدين، وكان الرباطيون قد تحركوا في وفود للاتصال بالقاضي والباشا، وأمضوا عرائض, كما قرروا إضرابا عاما يوم فاتح يناير 1952 م، لولا أن أطلق سراح الجميع,

 

وتوالت الأحداث وزاد الضغط على الخطباء والعلماء والمدرسين بالمساجد، فألقي القبض يوم 11 يناير 1952 م على عبد الواحد بن عبد الله، لما لوحظ في دروسه من حماس، ولمجرد أنه أورد اسم جان دارك كمثال حي لما تفعله قوة الإيمان في نفوس المومنين، وحكم عليه بالسجن مدة سنة ونصف,فتحرك سكان الرباط وأمضى العلماء عريضة رفعوها إلى جلالة الملك الذي اقتضى نظره تشكيل لجنة من العلماء للنظر في مثل هذه القضايا، وهي لجنة كان التفكير في تكوينها قبل ذلك على إثر اعتقال الخطباءء, وتضامن العلماء من جميع أنحاء المغرب مع ابن عبد اللله، وحتى من الأزهر في مصر، وأرسلت برقيات احتجاج إلى المقيم العام والبابا في رومة, وكان نتيجة لهذه الاحتجاجات أن أطلق سراحه بعد أن أمضى في سجن لعلو بالرباط نحو ثلاثة أشهر, وبررت السلطة الفرنسية الإفراج عنه بسبب موت رضيع له,

 

في هذا التاريخ نفسه (11 يناير ) رفعت جبهة الأحزاب الوطنية مذكرة للمطالبة بإلغاء الحماية وإعلان الاستقلال، وكانت تتكون من حزب الاستقلال وحزب الشورى وحزب الوحدة وحزب الإصلاح الوطني, كما أعلن في هذا الشهر عن إضراب عام في الرباط,

 

وفي 15 مارس 1952 م رفع جلالة السلطان مذكرة إلى رئيس الجمهورية الفرنسية فانسان أوريول بواسطة مقيمها العام، يطالب فيها بتبديل معاهدة الحماية بمعاهدة صداقة, فجاء الجزاب متأخرا في سبتمبر من هذا العام، يقول بأن الإصلاحات لا ينبغي أن تبدأ كما يريدها السلطان ـ أي من أعلى ـ بتأسيسس حكومة مغربية تتولى المفاوضات مع فرنسا لإلغاء الحماية، ولكن ييجب أن تبدأ من الأسفل بتكوين مجالس وجماعات يشارك فيها الفرنسيون,

فكان رد جلالة الملك أن بعث مذكرة أخرى، في أكتوبر من العام نفسه، لتأكيد موقفه وإظهار رغبة المغاربة في تحقيق الحرية,

 

وكان عيد العرش في 18 نونبر 1952 م ( العيد الفضي ) مناسبة لجلالة ابن يوسف كي يصرح في خطابه بأن "مثل الحماية كمثل قميص جعل لطفل صغير فكبر الطفل ونما وترعرع وبقي القميص على حاله",

 

وقد شهد شهر دجنبر من هذا العام  (1952م ) حوادث زادت الأزمة شدة، فعلى إثر اغتيال الزعيم النقابي التونسي قرحات حشاد شن إضراب استمر نحو ثلاثة أشهر, كما وقعت أحداث بحي كاريير سنطرال قتل فيها عشرات من الفرنسيين, وعلى إثرها تم توقيف جرائد "العلم" و "الرأي العام" و "الاستقلال" وكذا مجلة "رسالة المغرب"

 

أمام الأزمات التي عرفها المغرب سنتي 51 و 52 سارع العرب والمسلمون إلى تأييده واتخذت الدول العربية قرارا بتقديم قضيته إلى هيئة الأمم المتحدة، فكان أن اتهمت فرنسا جلالة السلطان بالاستنجاد بالخارج، وكان من الإجراآت التي اتخذتها لمواجهة الموقف تقديم إصلاحات إدارية تقوم على إحياء الجماعات والمجالس المحلية للقبائل مما كان ألغي قبل, وكان منها كذلك الإعداد لحركة القواد والباشوات، مما زاد في حدة التوتر بين القصر الملكي والإقامة العامة، وأفضى إلى أحداث غشت 1953 م,فقد عمت الرباط مظاهرات طوال الأسبوع الذي سبق نفي محمد الخامس، وفيها خرج الرجال والنساء منادين بحياته وولي عهده والعرش العلوي، ومنددين بالخوتة داعين إلى سقوطهم,

 

وأهمها مظاهرة السبت 15 غشت 1953 وما بعده,

وما كادت إدارة الحماية تخبر مساء هذا اليوم في بلاغ غامض بأن ابن يوسف وقع في آخر الأمر الظهائر المتوقفة منذ أيام حول البلديات، وتنادي بجلوس محمد بن عرفة على العرش حسب اختيار عدة باشوات وقواد يتزعمهم التهامي الكلاوي، وذلك في قصره بمراكش بمحضر المقيم العام كيوم وأعوانه من الفرنسيين,

 

وصباح يوم الأحد 16 غشت صدرت جريدة (المغربي الصغير )                          بصورة ابن عرفة جالسا على العرش، فهاج الناس وماجوا وخرجوا منذ الصباح في مظاهرة صاخبة، داعين باسم الله اللطيف,وأضرب الناس عن العمل وأغلقت الدكاكين، وكانت المدينة كلها مطوقة بالقوات الفرنسية,

 

واضطرت السلطة المحلية إلى مواجهة المتظاهرين إذ خرج الباشا العباس التازي وحاول تهدئة الناس وخاطبهم بأن الملك هو ابن يوسف وأن بيانا سيذاع بهذا الشأن في نشرة أخبار الزوال,

 

وحين لم يكن شيء من ذلك في النشرة المشار إليها عاد الناس للتظاهر ابتداء من الثانية بعد الظهر ,وفي هذا اليوم استشهد رجل وامرأة عند باب لبويبة,

 

 

وفي يوم الإثنين 17 غشت وقع تجمع كبير بمسجد مولاي سليمان قرىء فيه اللطيف، وتلي على الناس تصريح من ابن يو سف يدعو شعبه الوفي إلى رباطة الجأش والثبات، وأنه هو ملك البلاد؛ وأما الطائشون وصنائع الاستعمار فمارقون، وأن على فرنسا أن تعمل على إيقاف هذه اللعبة,

 

ولم يذع راديو المغرب هذا التصريح ولكن إشارت إليه إذاعة طنجة باللغة الفرنسية في اليوم نفسه, ثم ختم هذا التجمع بتوزيع الصدقات على الضعفاء ,

واستمرت المظاهرات في الأيام التالية والأزمة تشتد إلى أن كان ما وقع، إذ طوق الرباط وضيق الخناق بالقوات المسلحة,

 

وعلى الساعة 30 ,13 فاجأ كيوم السلطان ابن يوسف في قصره وأمره بمغادرته نهائيا هو وعائلته، إذ رفض المساومة ورفض التنازل عن العرش؛ وفق ما يظهر من الحوار الذي دار بينهما، والذي ساقه بهذا النص جلالة الملك الحسن الثاني قدس الله روحه، في كتابه ( التحدي ) :

ـــ إن الحكامة الفرنسية لدواعي الأمن تطلب منكم التنازل على العرش، فإذا قبلتم ذلك عن طيبة خاطر، استطعتم أنتم وأسرتكم أن تقيموا في فرنسا، أحرارا معززين مكرمين,

ــ ما من شيء في أعمالي وأقوالي يبرر أن أتخلى عن أمانة أضطلع بأعبائها بصفة مشروعة، وإذا كانت الحكومة الفرنسية تعتبر أن الدفاع عن الحرية والشعب بمثابة جريمة يعاقب عليها، فإني أعتبرها فضيلة يفاخر بها وتورث صاحبها المجد,

ـــ إذا لم تتنازلوا حالا عن العرش بالرضى، فإني مكلف بإبعادكم عن البلاد صيانة للأمن

ــــ إني ملك المغرب الشرعي ، ولن أخون أبدا الأمانة التي ائتمنني عليها شعبي الوفي المخلص,إن فرنسا قوية فلتفعل ما تشاء,

وهكذا تم نفي الملك المجاهد وأسرته إلى كزرسيكا ثم مدغشقر؛ وهو حدث أفضى إلى ما بعده، بما شكل من مرحلة جديدة كانت لاشك تحولا كبيرا في سياسة الحماية، وفي الموقف الوطني من هذه السياسة,

 

وقد كان للرباط  ــ كما كان لسائر مدن المغرب ـ دور نضالي رائد وفعال غير مجرى هذه المرحلة بما كان لأبنائه من مواقف بطولية متفردة,

 

ومن الأعمال التعسفية الأولى التي قامت بها إدارة الحماية إثر حادث النفي، إعفاء بعض الموظفين الذين كانوا مقربين من جلالة ابن يوسف, وكان الوالد رحمه الله في طليعتهم، إذ تم توقيفه صباح السبت 22 غشت بقرار من الصدر محمد المقري فيما يتعلق بمهام تفتيش التعليم العربي الحر، وبقرار من طابو مدير التعليم بالنسبة لمهام تفتيش لتعليم البنات, وكان هذان النمطان من التعليم خاضعين للإشراف المباشر لجلالته نور الله ضريحه,

 

وفي فاتح أكتوبر 1953 أعفي بعض موظفي القصر الملكي، وهم ( من الرباط ) :

الحاج عمر القباج

الحاج المكي بن مسعود

العربي السرايري

الطاهر الشرقاوي

وكان معهم من سلا :

الحاج بوبكر الصبيحي

كما تم فيما بعد توقيف عدول رباطيين عن خطتهم لرفضهم الخطبة في أيام ابن عرفة؛ وهم :

محمد حكم

رضوان التازي

محمد قريون

الصديق الشدادي

 

وفي هذا الإطار المتصل بموقف العلماء، وقع أن حدثت مظاهرات في فاس في أوائل غشت 1954 ،  واعتصم عدد من العلماء بضريح المولى إدريس, إلا أن السلطة الفرنسية أخرجتهم بالقوة ونقلتهم إلى الرباط وحبستهم في مدرسة للا عائشة بالمشور، ثم استنطقوا في الاستيناف الشرعي بدار المخزن وأجبروا على توقيع اعتراف بذنبهم والتماس العفو من ابن عرفة "الذي مس جنابه",

وكان البعض قد وقع والبعض قد رفض,

 

وتجدر الإشارة إلى أن اسماعيل الإدريسي ـرئيس الاستيناف يومئذ ـ هيأ فتوى اعتمد فيها على قول الشيخ خليل في المختصر "لا بدخول الحرم"أي لا يؤخر القصاص عن الجاني بدخوله المسجد الحرام، بل يخرج ليقام عليه الحد, وفي هذه الفتوى اعتبر هؤلاء العلماء جناة مارقين وحين عرض الرئيس هذه الفتوى على أعضاء المجلس، اعترض الحاج محمد بن عبد الله وهو من علماء الرباط البارزين، فكانت النتيجة أن أعفي من منصبه,

 

مهما يكن فقد استمر الوضع متوترا والتجمعات قائمة والعرائض مرفوعة وحركة الفداء على أشدها، كما سنرى بعد في قسم خاص بالمقاومة المسلحة,

وحين تبين انه لا مفر من مراجعة أمر النفي قامت تحركات في الرباط :

من ذلك ما قام به قدكاء ثانوية مولاي يوسف والمدرسة الإدارية وعدد من الأطر الوطنية، حين نشروا بلاغا يوم 13 يونيو 1955،يعربون فيه عن تفاقم الأزمة وأنه لا حل لها إلا بالنظر في مشكل العرش,

 

هذا، وطوال أيام أزمة النفي، كانت تكثر الإضرابات وتغلق الدكاكين لمدة طويلة، تعبيرا عن موقف السكان النضالي, وكانت السلطات الفرنسية تواجه هذا الموقف بكسر أبواب المتاجر,

في هذا الوقت وحتى لا يشعر التجار المتوسطون بالضرر كانت تجمع لهم المعونات,

وفي 20 يونيو 1955 والأزمة على أشدها أصدرت القيادة العليا لمنظمة الفداء الرباطية منشورا تطلب فيه من المواطنين المالكين ألا يقبضوا كراء شهرين من عند المحترفين والتجار الضعفاء الذين شاركوا في الإضراب,

 

ومما جاء في هذا المنشور :",,, أيها المغربي اعلم أنك إذا ضحيت بواجب شهرين فإن ملكنا قد ضحى بملكه وعرشه، وإخواننا الفدائيون يضحون وسيضحون بأموالهم وأنفسهم إلى آخر لحظة,,, "

 

هذا وحين تكرر سقوط القتلى والجرحى من الخونة وأذناب الاستعمار، دعت السلطة سكان الرباط في اجتماع عقد بمحكمة الباشا العباس التازي إلى النهوض بمهمة الحراسة والمراقبة مناوبة من الخامسة مساء إلى العاشرة ليلا,

وكان السكان يواجهون هذه التعسفات وغيرها بتجمعات ومظاهرات يرددون فيها شعار:

" ابن يوسف إلى عرشه "

ساخرين من ابن عرفة في مثل هذا الهتاف :"بن عرفة يا لحمار، نض اتشوف سيدك فالقمر"، إشارة إلى ما كان شاع بين المواطنين بأن صورة ملكهم المنفي معكوسة على صفحة القمر، يرونها ويتأملونها مستبشرين متفائلين بعودته,

ومن هتافات السخرية بالملك العميل ما كانت تخاطب به زوجته على لسانه:"أللا هنيا جانا الملك ابلا انويا، بين الصباح ولعشيا "

هذا في وقت كانت تشيع بعض المرددات الشعبية المشيدة بكفاح بعض المدن، على نحو ما كان يقال عن الدار البيضاء:

       اتساريت كاع البلدان               ابحال كازا ما كان

       تم اولاد الــوطـــــن                يحضر ويجود الله

وكانت هذه المرددات  ـ من شعارات وهتافات ـ تعكس أعمال المقاومة المسلحة المتمثلة فيما سمي يومئذ بحركة الفداء التي شملت مدنا مغربية كثيرة,

 

وقد سجل التاريخ أن الرباط كانت مركزا أساسيا لهذه الحركة، وهذا على عكس ما كانت تظن فرنسا بحكم أن الرباط عاصمة يقيم فيها ابن عرفة ورجال الحماية، وهي محمية بقوات كيرة ، وكذا بحكم وجود الأسوار محيطة بها , لكن خاب ظنهم وأصبح الرباط

 مركزا للعمل الفدائي

ومنطلقا لعمليات خارج الرباط

ومقر تنسيق للمقاومة في مختلف الجهات

وكانت أحياؤه خارج السور مجالا لتحرك المقاومين وتدريبهم، مثل:

,) غابة تمارة والمعمورة

, ) العكاري

, ) دوار الدبغ ودوار الدوم الذي كان الفرنسيون يطلقون عليه " ابن امسيك الجديد "

 

وهكذا كانت البدايات من الرباط، حسب صحف الفترة وكذا مدونات المؤرخين وشهادات المقاومين، إذ سجلت أربع عمليات:

الأولى : مباشرة بعد نفي جلالة ابن يوسف، في أواخر غشت 53 فجرت قنبلة في

           مخبإ سيارة أحد الدبلوماسيين الأمريكيين في الساعة السادسة صباحا لإشعار  

           الدبلوماسيين بحقيقة الوضع,

الثانية  :يوم 4 سبتمبر 53 أطلقت أول رصاصة بحي العكاري ، والجدير بالذكر أنه

          في هذا اليوم أطلقت أول عملية فدائية في الدار البيضاء ,

الثالثة : عملية الشهيد علال بنعبد الله الذي تصدى بخنجر طعن به ابن عرفة وهو في موكب أداء الصلاة يوم الجمعة 11 سبتمبر 1953 وعاد إلى قصره مضرجا بالدماء وهو يقول:

  شي باس ما كان

ما درت لهم والو

الرابعة : انفجار ثلاث قنابل يدوية في القطار الذاهب من البيضاء إلى الجزائر وذلك عند خروجه من محطة الرباط وهو يخترق جسر أبي رقراق: أوائل أكتوبر 53

 

     كانت هذه العمليات فاتحة عهد جديد ملأ قلوب المغاربة بأمل الانتصار، وتوالت الأعمال التي كان ينفذها الفدائيون على هذا النحو:

ــ إطلاق الرصاص على الخونة والفرنسيين وجنودهم واستعمال الأسلحة البيضاء كذلك

ـ وضع القنابل وصنعها

ـ ضرب القطارات

ـ فك قضبان السكة الحديدية

ـ قطع خطوط الهاتف

ــ إشعال النار في السيارات

ـ الاستيلاء على مخازن الأسلحة

ـ محاربة شرب الدخان

ـ مقاطعة البضائع الأجنبية مثل كوكاكولا

ـ التعرض للمؤسسات العميلة

ـ توزيع المناشير وتحريرها

ـ توجيه رسائل التهديد

ـ جمع التبرعات ومساعدة أسر المقاومين

وكانت الأسلحة تصل إلى المقاومين من المنطقة الشمالية, وكان بعض المقاومين قد استقروا في الشمال وإسبانيا ونهضوا بهذا العمل، وكان من بيينهم:

سكيردة

والعربي رودياس

كذلك كانت الأسلحة تصل بالشراء من الأمريكيين الذين كانت لهم قاعدة في مدينة القنيطرة ، وحتى من بعض الفرنسيين، إضافة إلى الهجوم على مراكز السلاح أو بعض الجنود المسلحين، دون إغفال صناعة القنابل محليا ، ومن الذين كانوا يصنعونها المقاوم أحمد وراث,

 

وما كانت العمليات الفدائية تمر من غير أن يلقى القبض على عدد من مخططيها ومنفذيها واستنطاقهم وتعذيبهم حتى الموت وكذا إصدار أحكام عليهم بالسجن الطويل وقد تصل هذه الأحكام إلى الإعدام, وممن حكم عليهم به :

العطاوي

وابن الرتيلة

والشرقاوي

وإن المحلل لحركة المقاومة والقائمين عليها يجد أن معظمهم كانوا من الصناع والعمال والتجار، ومن تلاميذ المدارس، وكذا من بعض العلماء الذين كانوا يمدون الحركة الفدائية بالمال وكذا بتحرير الرسائل والمناشير التي كانت تتضمن مثل هذه العبارات :

ـ دماؤنا وأرواحنا فداء محمد الخامس

ـ لا حياة لنا بدون محمد الخامس

ـ الله ناصرك يا محمد الخامس

ـ يهون الموت علينا في سبيل محمد الخامس

 

ومن الجماعات الفدائية التي كانت تتحرك في الرباط تذكر على سبيل المثال :

2ـ جماعة عبد القادر بن يوسف ( لعلها الأكبر) وكان من بين أعضائها :

         عبد القادر بن سليمان

          محمد لبليدي

         عبد القادر الورديغي

         عبد الله العلوي

         عبد اللطيف الكيحل

         علي بو لهرود

         عبد الله العبريدي

      عبد الرحمن اعليوة

وغيرهم.....

2 ـجماعة إدريس فرشادو ، ومن المنتمين إليها :

             محمد لحلو

           نصر الدين لحلو

           عبد الكريم بلعربي

           التهامي الرغاي

           محمد بن عبد السلام الشرقاوي

           محمد رضوان الشرقاوي

          رضوان اغفير

          التهامي المذكوري

          عبد الهادي جوريو

          محمد السودور

          العربي رودياس

وآخرون.

3 ـ جماعة إبراهيم العوفير، وكانت تضم :

            محمد الدكالي

            المحجوب الجراري

            قاسم الجيلالي الجراري 

           أحمد إبراهيم االسطاطي

          عبد الرزاق اطريدانو

          محمد العكسة

          محمد البزيوي

          محمد اجبيلو

وغيرهم من المقاومين

4 ـ جماعة يعقوب المنصوري، وكان فيها :

           لحسن الحلوي

          علي الشيظمي

          علي بوعزة

          الحسن الزعري

         ج محمد عكا الصحراوي المعروف بالمصارني [3]

     ناني ميلود

وأفراد آخرون.

5 ـ جماعة عمرو العطاوي، ومن بين أفرادها :

             محمد الجوهري

             أحمد اقليلو

             امحمد لوديي

             عبد الفتاح سباطة

            المكي برتيلة

            عبد الرزاق لبليدي

            علال الزياني

            الإدريسي علال ( سكيردة )

           مصطفى اجديرة

            عبد السلام الجوهري

           عبد الرحمن الشرقاوي

           عبد اللطيف السمار

           عبد الفتاح السمار

6 ـ خلية أحمد بلحفيان الملقب (حميدة ) وكان من أعضائها :

          الغزالي أحمد (مولاي العربي )

          المغاري مولاي الحسين

          نحال حمد المكي الويدي

         محمد الدكالي

        عبد القادر الجيلالي (ولد الحداوية )

7 ـ جماعة ( أبو عبد الله محمد بن ميلود ) ، وكان من بين المنضوين إليها :

           صالح المعطاوي

          امعاشو العاصمي

          زروق أحمد

          مَحمد جمال بوبول

         داعمر محمد بن ابراهيم

8 ـ منظمة شهداء الحق ، ومن أعضائها :

          عبد الرحمن بن الحسين الجاوي

          محمد الريح

       محمد بوجمعة الهلالي

       عبد العزيز بليمني

       عبد الفتاح بوجندار

 

والحق أنه ليس من السهل استحضار أسماء سائر الجمعيات وجميع المنتمين إليها، كما أن محاضرة محدودة لا تسعف في ذلك مما يحثني على إفراد هذا الموضوع بكتابة موسعة إن شاء الله .

هذا مع العلم أن مقاومين آخرين اشتهروا بمواقفهم وأعمالهم لم أهتد إلى الخلايا التي كانوا منتمين إليها، أمثال:

   فتاح صالح بن احمد (المعروف بالابيض )

   المقري عبد الله ( المعروف بالجلاوي )

   احمد المرابط

   الحسين الخضار

   سليمان بنكروم

  بلحفيان احمد

  نحال محمد

  الفقيه الخصاصي

  المعطي عزمي الجراري

  عبد الهادي الشرقاوي ( ابن السايح )

  بلعيد السوسي ( استشهد )

 عيسى الزموري ( استشهد )

 مَحمد الحصيني الذي يبدو أنه كان مع جماعة يعقوب المنصور، إذ كان من منشطي خلية حزب الاستقلال بحي العكاري .

 

ثم إنه لا يخفى أن حركة الفداء عرفت نساء مقاومات كثيرات، كانت من بينهن :

       1 ـ محجوبة بنت الميلودي

       2 ـ الحاجة المجاهد الغالية التي كانت في خلية الحسين الزعري

       3 ـ رحمة بنعزوز

       4 ـ الزاهية الحايدي

       5 ـ الغرباوي جَمْعة

       6 ـ الزهرا السباعية

 

وبعد، فإن تناول موضوع المقاومة يفضي إلى استنتاجات  ما أحوجنا إلى تدبرها، وأهمها :

1 ـ أن الكفاح ضد الحماية لم يتوقف على امتداد فترتها .

2 ـ أنه تدرج في مراحل نستطيع أن نحددها بخط بياني تصاعدي

3 ـ أن حدث النفي يشكل نقطة تحول في هذا الخط

4 ـ أن موقف الاستعمار من العرش تحدد يوم وافق محمد الخامس على المطالبة بالاستقلال     

     في يناير 44 .

5 ـ أن إحراز الاستقلال تقرر يوم تم تقديم هذه المطالبة .

6 ـ أن جميع المغاربة ناضلوا من أجل الاستقلال، مع وجود ريادات على مستوى الأفراد       

     والهيآت وكذا على مستوى المدن والأقاليم.

7 ـ أننا مطالبون بالحفاظ على تاريخ الكفاح  الوطني بل على تاريخ المغرب عامة، ومطالبون     بجمع وثائقه  وتجميع حقائقه بعيدا عن أي تحيز قد يبعد عن الحقيقة أو يزيفها.

8 ـ أننا مسؤولون عن تلقين هذا التاريخ للأجيال الصاعدة التي لم تعش مراحله، ومن ثم ، فإننا نقترح ما يلي:

1 ـ تأسيس لجنة علمية على مستوى وطني للنهوض بهذا العبء.

2 ـ البدء بالتوعية على أوسع نطاق بأهمية جمع وثائق التاريخ الوطني ومستنداته حتى لا        يبخل المواطنون والهيآت وما إليها بتقديم ما في حوزتها في هذا المجال.

3. ـ ضرورة تدوين تاريخ المقاومة.

4 ـ إصدار كتاب أو أكثر عن هذا التاريخ.

5 ـ إنجاز برامج إذاعية وأشرطة سينمائية وتلفزية وتقديم مسرحيات عن المقاومة .

6 ـ عقد ندوات علمية وتنظيم مباريات أدبية في موضوعها.

7 ـ تكريم المقاومين، وإحياء ذكرياتهم وتخليد أسمائهم بإطلاقها على الشوارع والأزقة

    والأماكن العمومية.

8 ـ إقامة متحف للمقاومة.

9 ـ العناية بتاريخ المقاومة في المقررات المدرسية.

10 ـ إقامة التعاون بين المندوبية السامية للمقاومة ومختلف الهيآت والجمعيات والمؤسسات من أجل هذه الأهداف.

 

أشكر لكم حسن إنصاتكم

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

 

 

 



[1]   من الكتابات التي اعتمدت في هذا العرض :    صفحة من صفحات الكتلة، وحياة بطل التحرير،وبعض التقاييد التاريخية، وهي كلها للوالد رحمه الله، وتاريخ الحركة الوطنية للأستاذ عبد الكريم غلاب،والحركات الاستقلالية للأستاذ المرحوم علال الفاسي، والتحدي لجلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله، والحسن الثاني للأستاذ عبد الوهاب بنمنصور، ووثائق ومستندات صادرة عن حزب الاستقلال وحركة الوحدة المغربية،واستجواب مع الأستاذ المرحوم محمد اليزيدي نشرته جريدة العلم  يوم 11 يناير 1987 ،و إضافة إلى شهادات بعض المقاومين,

[2]  انظر عرض"29 يناير يوم الحرية الخالد"المنشور في هذا الكتاب,

[3]   أمدني بمعلومات ضافية عن هذه الجماعة المجاهدة ستغني البحث الموسع الذي آمل إنجازه عن المقاومة أن شاء الله .