الوجود الإسلامي في أوروبا :

كيف يكون رافدا

لحضارتها المتجددة؟


 

 

 


عباس الجراري

 

 

 

 

 

 


الوجود الإسلامي في أوروبا :

كيف يكون رافدا لحضارتها المتجددة؟

 

 

 

 

 

منشورات النادي الجراري

- 46 -

 

 

 


منشورات النادي الجراري

- 46  -

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف

رقم الإيداع القانوني : 2008MO2115

ردمك : 9981-893-27-7

الطبعة الأولى

رمضان 1429 = سبتمبر 2008م

مطبعة الأمنية  - الرباط

 

 

 

 

 

7 – مقدمة

9 - الوجود الإسلامي في أوروبا :

      كيف يكون رافدا حضارتها المتجددة ؟

 

* * *

يعتبر بعض الأوروبيين أن الوجود الإسلامي في بلدانهم يثير مشاكل كثيرة، ولا سيما على الصعيد الإجتماعي والثقافي وما إليه مما يتصل بالهوية. وهو منظور – على سلبيته – لا يخلو لأسباب موضوعية، مما يحتاج إلى مراجعة بعض الأوضاع وإعادة النظر فيها حتى تستقيم.

إلا أن لهذا الوجود جانبا إيجابيا قلما يثار أو يلتفت إليه، وهو – إضافة إلى كل ما قدمه ويقدمه المسلمون لأوروبا من خدمات في مجالات كثيرة – قابل لأن ينظر إليه، باعتباره رافدا لإغناء حضارتها المتطورة والمتجددة باستمرار، وهو ما تسعى هذه الدراسة الموجزة إلى تناوله.

وقد سبق نشرها في مجلة "الإسلام اليوم"(1) التي تصدرها  المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو)، إذ كان الإقبال عليها كبيرا من الذين يهتمون بالموضوع ؛ مما حفزني إلى إعادة نشرها وإخراجها في هذه الكراسة، وفق ما صدرت عليه في المجلة المذكورة بلغاتها الثلاثة. وقد جاءت أشبه ما تكون بفصلة أو مستلة يسهل تداولها بين القراء المعتنين.

والله من وارء القصد

الرباط في 10 رمضان 1429

الموافق 11 سبتمبر 2008م

عباس الجراري

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يشكّل الوجود الإسلامي في أوروبا قضية هامة تتعلق بواقع الإسلام والمسلمين فيها، من خلال مختلف المشكلات التي يبرزها هذا الواقع بإيجابياته ومزاياه، وبسلبياته ومساوئه. ومن بينها ما يمثله السؤال الذي طرحناه عن الكيفية التي يمكن لذاك الوجود أن يكون رافداً للحضارة الأوروبية المتجددة.

ولا شك أن الجواب عن هذا السؤال وما قد يتفرع عنه، يفضي إلى تناول قضية الوجود الإسلامي في أوروبا من حيث هو، وما يمكن أن يكون له من تأثير على ما تنتجه أقطارها من حضارة متطورة ومتجددة. وهو ما أهدف إليه في هذا العرض الذي جعلت له عنواناً مبرزاً لتلك القضية: "الوجود الإسلامي في أوروبا: كيف يكون رافداً لحضارتها المتجددة ؟". وإن تناول هذا الموضوع يقتضي مراعاة جملة عناصر أساسية ومؤثرة، لعل في طليعتها أن عدد المسلمين الذين يمثلون اليوم هذا الوجودَ تناهز ملايينه العشرين. وهم موزعون على مختلف أقطارها، ولا سيما فرنسا حيث يشكلون نسبة تقدر بسبعة في المائة من مجموع السكان ؛ منهم نحو مليون ونصف المليون من المغاربة الذين يوجد منهم عدد مماثل لهذا في بقية الأقطار الأوروبية.

وقد عرف الحضور الإسلامي أوجه في السنوات الأخيرة؛ وكان في القرن الماضي قد تمثل في الجنود الذين ساهموا بنصيب وافر في مختلف معارك التحرير الفرنسية. كما تمثل في العمال الذين قامت على سواعدهم المصانع وغيرها من مجالات الخدمة الشاقة التي كان يأنف منها الفرنسيون وغيرهم من الأوروبيين.

ثم لم يلبث هذا الحضور ــ  على العموم ــ أن تطور بفضل الكفاءات الفكرية والإبداعية والطبية والتقنية المتخصصة التي التحقت للعمل بالجامعات والمعاهد والمستشفيات وغيرها، والتي أعطت صورة جديدة ومتميزة عن المسلمين، أفضت في الفترة الأخيرة إلى تولّيهم مناصب إدارية وسياسية سامية في الدولة. وتذكر إحصاءات الأمم المتحدة وجهات معنية أخرى
ــ عربية و أجنبية ــ أن نسبة المؤهلين أصبحت تعادل ثلث مجموع المهاجرين.

ومع ذلك، فإن التطلع إلى الهجرة بقصد الإقامة هناك للعمل، أصبح يثير مشاكل كبيرة وكثيرة، أمنية واجتماعية، أبرزها ما يلجأ إليه الراغبون في بلوغ هذا الهدف، أو من يطلق عليهم "المهاجرون السريون" أو "غير الشرعيين" ــ وعددهم يزيد على خمسة ملايين حسب تقرير لمجلس أوروبـا ــ من وسائل تصل إلى المغامرة والمخاطرة بالنفس ؛ إضافة إلى تعرض بعضهم لتهمة القيام بأعمال عنف إجرامية تثير القلق والاضطراب.

وغير خافٍ أن العالم كلَّه، سواء منه المتقدم أو المتخلف، يعاني اليوم هذا القلق والاضطراب، من جراء واقع العصر بأحداثه المتلاحقة وأزماته المختلفة، وخاصة ما يتصل منها بظاهرة الإرهاب التي يبدو أنها أفقدت المسؤولين زمام الفهم والتحكم، فغدا بعضهم ــ إن لم أقل معظمهم ــ يلقون التهمة بها جزافاً على المسلمين الذين يصورونهم وكأنهم يعيشون خارج عصرهم، غير راغبين في الاندماج فيه ولا قادرين عليه. والحق أن المسلمين، انطلاقاً من واقعهم، وما يمليه عليهم دينهم وتاريخهم وقيمهم ومنظورهم للحياة، متطلعون إلى الانخراط الإيجابي في بناء العالم، والمساهمة الفعالة في تشييد حضارته المتجددة.

من هنا، فإنهم يرون ضرورة التحالف مع غيرهم، ولا سيما الأوروبيين، للقيام بهذا الدور ؛ وقبل ذلك وبعد، لحماية حضارتهم المشتركة التي ازدهرت على ضفاف البحر المتوسط؛ هذه الضفاف التي هي مهد أصيل للحضارة الإنسانية، وجزء هام ومكون أساسي لهذه الحضارة التي تكاملت خلال التاريخ، بدءاً من الإغريقية ثم الرومانية، إلى العربية الإسلامية، فالأوروبية اليوم. وهم في ذلك مقتنعون بحاجة البلدان المتوسطية إلى العمل الجاد على تقريب الهوة الفاصلة بينها، وتخفيف ما يقسمها ويفرق بينها من تفاوت واختلاف، في اعتراف كل طرف بالآخر، ومساعدة من هو معوز أن تمد له يد العون، للنهوض واكتساب القدرة على مواكبة الركب ومواصلة المسير بتسامح.

إن التسامح في مفهومه الصحيح الذي أصَّله الإسلام منذ القديم وأكدته المواثيق الجديدة، لا يعني من الجانب الضعيف أن يتنازل أو يخضع أو يستسلم لمن هو أقوى منه، أو يتخلى بذُلٍ وخنوع عن خصوصياته وما هو مختلف فيه مع الآخر ؛ ولكن يعني إيجاد عناصر الائتلاف في مواطن الاختلاف، لإمكان التعايش في ظل هذا الاختلاف، والثقافي منه على الخصوص ؛ مع ضرورة الإشارة إلى أن الاختلاف في حد ذاته يُعدُّ قيمة أبرزها الإسلام، باعتبارها إحدى سنن الله في الكون والحياة.

وإذا كان للاختلاف الثقافي تأثير على بقية مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإن ذلك يدعو إلى مراعاة مفعول هذا التأثير في التعامل مع المعطيات العالمية، وخاصة مع العولمة وما تتطلب معايشتها من توازنٍ هو وحده الكفيلُ بتحقيق المصالح المشتركة، وإدراك آفاق المستقبل المنشود.

ومما يجدر التنبيه إليه، أن العولمة لا تعني ــ ولا ينبغي أن تعني ــ مفهوماً جديداً للمواطنة يعطيها بعداً عالمياً تلغى به الأوطان، ليخلفها وطن واحد هو العالم الذي كثيراً ما يوصف بأنه أصبح مجرد قرية صغيرة. وهو ما يرفضه أصحاب جميع الهُويات، بدءاً من الأوروبيين الذين نادوا ــ وما زالوا
ينادون ــ بالاستثناء الثقافي، إلى المسلمين الذين يتمسكون بذاتيتهم النابعة من مقومات كثيرة، أبرزُها الدين، وإن كان الأوروبيون في ظاهر الأمر لا يعتبرون هذا المكون، مع أنه في الحقيقة حاضر بقوة في فكرهم، وربما بشيء غير قليل من التعصب عند البعض. على أن تمسك المسلمين بدينهم خاصة، وبهويتهم عامة وما تمنحهم من خصوصيات، لا يعني أن يتخلوا أو يتخلفوا عن ركب العالم المتطور، بكل منتجاته ومستلزماته وإكراهاته.

ومن ثم، ونظراً لرسوخ العنصر الديني في النفوس، واستحالة الاستبدال به أو التخلي عنه، فإن أي تحاور من أجل التعايش ينبغي أن يبتعد عن العقيدة وما يرتبط بها من عبادات ومقدسات، وأن يبقى في إطار القيم والمعاملات. وذلكم تجنباً للصراع والصدام، وما يقترن بهما من غُلُوٍ لا يلبث أن يُفضي إلى العنف، مما قد يعمّق الانقسامات التي تكون داخل الدين الواحد. وهو واقع يحتاج إلى أن يعالج بحوار داخلي: إسلامي إسلامي، ومسيحي مسيحي، لتجاوز كل مذهبية أو طائفية مفرقة ؛ الشيء الذي يقتضي مراجعة الطرفين لأحوالهما الداخلية، بهدف إصلاحها وإزالة ما بينها من خلاف ؛ أي من ضد ونقيض. وهو غير الاختلاف الذي يشار إليه في هذا العرض باعتباره ظاهرةً حميدة.

ونظن أن من بين ما ينبغي اهتمام المسلمين به في هذا الحوار الداخلي، ما يتطلبه حلّ معادلات كثيرة ما زالوا لم يهتدوا إلى حلها ؛ على نحو كيفية التوفيق بين التراث والمعاصرة، وبين الأصالة والحداثة، وغيرها من المشكلات، كالبحث في أسباب فشل كل الحركات الإصلاحية في الدفع بالمجتمعات الإسلامية إلى مراقي التقدم والازدهار. وذلكم ما تحتاج معالجته إلى التوسل بفكر متجدد، والاعتماد على مناهج متطورة، والاستناد ــ قبل هذا وبعد ــ إلى الشجاعة في النقد وإبداء الرأي.

ومعلومٌ أن الحوار في مفهومه الحق، يشمل أشكالاً كثيرة، كالمناقشة والمناظرة والمذاكرة والمجالسة والمحاسبة والمقارعة ؛ ومنها الجدال الذي كثر استعماله في القرآن الكريم، على أن يكون بالتي هي أحسن مع أهل الكتاب. ويرتبط بالدفاع عن الحق والردّ على من يرفضونه أو يعادونه. ومن ثم ينبغي التزام الجانب الإيجابي في هذه الأشكال دون الوقوع فيما هو صراع أو خصام ؛ وهو الجانب الذي يهدف إلى تبادل الرأي بحرية حول حقائق معينة، وإلى التقريب بين الأطراف المختلفة حولها دون تنازع أو تعصب.

وإذا كان يوجد بين المسلمين في كل عصر أفراد منازعون ومتعصبون، أو جماعات متشددة غالية مخالفة لجمهورهم، فذلكم لا يطعن فيهم، فضلاً عن أن يكون طعناً في الإسلام نفسه ؛ مع العلم أن المسيحية عرفت وما زالت تعرف انقسامات ومظاهر متطرفة، على نحو ما هو موجود بين الكاثوليك والبروتستانت والأورثوذوكس. وهي اليوم تأخذ صيغاً أكثر خطراً، أبرزها الإنجيلية التي تحاول فئات منها بطغيان وجبروت وعنف، وبتحالف غريب مع الصهيونية، أن تنشر الرعب والإرهاب على الصعيد العالمي، مما تكشفه الأحداث والوقائع التي يعانيها المسلمون، وحتى غيرهم في بقاع كثيرة.

ومما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق، أن الحديث عن أوروبا لا يعني ــ كما يظن ــ أنه حديث عن نمط حضاري وثقافي واحد لا يشوبه أي اختلاف بين أقطارها، بل العكس هو الصحيح، لما بينها من اختلافات كثيرة ينبغي مراعاتها عند ما نثير موضوع الحوار الإسلامي المسيحي. وربما يقال مثل ذلك بالنسبة للمجتمعات الإسلامية التي لم تطبع بطابع واحد. وهو وضع يتجلى في الجانب التمثيلي لهذا الطرف أو ذاك، أو من له الحق في الحديث باسم الجميع.

لذا، فإنه ينبغي التفريق بين جمهور المسلمين المسالمين والسائرين في دينهم باعتدال وتوسط وتسامح، وبين فئة من الذين اندفعوا في طريق التشدد الذي أفضى عند بعضهم إلى العنف. وتلكم ظاهرة لم يعد يخفى أنها أصبحت عالمية، تغذيها أو تحث عليها أسباب موضوعية، كالفقر والأمية والجهل والإقصاء والتهميش وتعارض الرؤى والمواقف وغيرها، مما لا يتسع المجال للحديث عنه. وكانت قد بدت أولى بوادر هذه الظاهرة عند المسلمين في العصر الإسلامي الأول، على يد الخوارج الذين كان لهم موقف من الدولة يومئذ.

وهي غير مقتصرة على المسلمين، إذ نجدها ــ كما سبقت الإشارة إلى ذلك ــ في ديانات كثيرة ومذاهب متعددة. ومن ثم فإن الاعتراف بوجود الغلو عند بعض المسلمين، لا ينبغي أن يؤدي إلى التعميم بإلصاق العنف بجميعهم، فضلاً عن إلصاقها بالإسلام نفسه وبكتابه العزيز. وإذا كان من العبث التحاور حول العقائد لاستحالته، ولما تجسده هذه العقائد من علاقة خاصة بين معتنقيها والخالق، فذلكم ما يحث على الانتباه بحذر ويقظة إلى الذين يدعون لوحدة الأديان، بحجة انتمائها جميعاً لملة إبراهيم عليه السلام، مكتفين بالاعتماد على مبدأ الإيمان بالله وباليوم الآخر والعمل الصالح. وهم في الحقيقة يسعون إلى القضاء على هذه الديانات، ولا سيما الإسلام الذي هو خاتمها، عقيدة وشريعة وسلوكاً.

وبعيداً عن هذا المنحى، فإن التاريخ الإسلامي منذ العهد النبوي، يبرز كثيراً من المواقف الحوارية التي كانت بين المسلمين وغيرهم، مما كان يدور في المجالس الرسمية والحلقات العلمية، وحتى ما كان ينعقد منها في المساجد. وهو ما لا يحتاج إلى التمثيل له، لكثرته وشيوع المعرفة به وامتداد تواصله الذي لم يتوقف، وإن شَابَتْه مرحلة الاستعمار، وكذا الواقع اليوم بكل تحدياته. ومع ذلك فإنه لمن المستغرب أن يستمر الحديث عن ضرورة التواصل والحاجة إلى المعرفة المتبادلة، في وقت لم تعد في زمن العولمة أية حواجز إعلامية أو معرفية.

وعلى الرغم من بعض العوائق والعراقيل، فقد اتخذ الحوار على امتداد القرن الماضي، صوراً عديدة وصيغاً كثيرة، أهمها الندوات والمؤتمرات التي عقدت بقصد التقريب بين معتنقي الديانات السماوية الثلاث، وخاصة بين الإسلام والمسيحية. وإنه لتكفي الإشارة ــ على سبيل المثـال ــ إلى ما تم في سنـوات الستـين من القـرن الماضـي، مما انبثقـت عنـه وثيقــة "نور العالم"، في سعي لإبراز القيم الإنسانية التي تدعو إليها الديانتان. وهي الوثيقة التي صدرت عن المجمع المسكوني في عهد البابا بول السادس، على إثر لقاءات كثيرة بين مسؤولين من الطرفين. وإن عدم الاعتماد الصحيح والإيجابي على القيم، ليُعَدُّ من أسباب فشل كثير من اللقاءات التي كانت تثير قضايا العقيدة التي لا إمكان لأي طرف أن يتخلى عما يؤمن به منها، كما سبقت الإشارة إلى ذلك وتأكيده.

وإن من شأن مثل هذا الانشغال اللاَّمجدي أن يفضي إلى عدم تناول مشكلات العصر، وما تعانيه الإنسانية من فقر وجهل ومرض وغيرها من مظاهر التخلف المتعددة، وما ينتج جراءها من ظلم وتسلط وعدوان، ومن غلو وعنف كذلك. كما أن من شأنه أن يبعد عما يمكن أن يكون في الديانتين مما قد يساعد على تجاوز تلك المشكلات، أو بلورة حقيقتها على الأقل بغية إيجاد الحل المناسب لها ؛ ومن ثم تعمل على نشر التكافل والتكامل والعدل، وكذا على جمع الكلمة حول قضايا العصر وتحدياته، وتجنب الفتن ومواجهة التطرف والإرهاب، وإشاعة الأمن والاستقرار والطمأنينة والسلام في العالم ؛ بدلاً من السعي إلى الاستبداد به والهيمنة عليه وتنميطه، سياسياً واقتصادياً وثقافياً، على نحو ما تحاول الولايات المتحدة الأمريكية اليوم فرضه بمنطق القوة. وإن هذه الحقيقة لتكشف بجلاء أن الصراع القائم ضد الإسلام والمسلمين، لا يهدف بالدرجة الأولى إلى القضاء على هذا الدين، لقوته وسعة انتشاره واستحالة تخلّي معتنقيه عنه، ولكن يهدف أساساً إلى التحكم فيهم، مع فرض التوجّه إلى ما يضعفهم، ويبقيهم أتباعاً متخلفين، ويحقق مصالح خصومهم.

ومع ذلك، فإن أية آمال جميلة منشودة لا يمكن أن تتحقق ما لم يتحقق للمسلمين وجود إيجابي، يكون رافداً للحضارة العالمية الجديدة ومُغْنِياً لها. وهو ما يتطلب شروطاً ملزمة للطرفين، يكون في طليعتها العمل على تحسين أوضاع المجتمعات الإسلامية، بما يساعد على استقرارها وأمنها وطمأنينتها، مما يقتضي إحداث تنمية حقيقية فيها، بشرية ومادية. وهو هدف لا يمكن بلوغه بدون العمل الجاد على حلّ المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعانيها معظم هذه المجتمعات، بإزالة كل أسباب الصراع الذي يقاسيه المسلمون، ولا سيما في العراق والسودان والصومال وغيرها من الأقطار التي تواجه تحديات خطيرة مدمرة تهدد بالانقسام وتحول دون أي نمو أو تقدم ؛ مع التركيز على القضية الفلسطينية التي هي كالدمل في الجسم العربي الإسلامي، لا علاج له إلا برجوع الحق لأصحابه، والاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشريف، وكذا عودة اللاجئين إلى ديارهم فيها.

وإن من شأن هذا العمل إذا ما اقترن بمصارحة تفضي إلى المصالحة، أن يُوجد جواً ملائماً للتعاون المنشود، بتصحيح التاريخ وتنقيته من الأحداث التي عاناها المسلمون، سواء في الحروب الصليبية، أو محاكم التفتيش، أو في عهد الاستعمار، وتقديم الاعتذار عنها لمحو آثارها، ولإزالة عوامل البغض والكراهية ؛ فضلاً عما لا يزال يمارس من مظاهر عدائية، كتدنيس المصحف الشريف، والدعوة إلى التعديل فيه، وتشويه صورة النبي r مما هو حادث حتى الآن. تضاف إلى ذلك تصريحات بعض المسؤولين الذين يزعمون أن القيم الإسلامية لا ترقى إلى القيم الغربية. وقد بلغت هذه التصريحات مداها في العام الماضي، من خلال ما فاه به قداسة البابا بينيديكت من كلام استفزازي مثير ضد الإسلام والمسلمين وما أنشأوا من حضارة وثقافة.

ولعل تصفية الجوّ من هذه الشوائب أن يساعد على استرجاع الثقة بين المسلمين وغيرهم، على أساس من الاعتراف المتبادل، والقبول بالآخر رغم الاختلاف معه في خصوصياته ومقومات هويته وشخصيته الدينية والتاريخية والثقافية ؛ في غير استعلاء ولا رغبة في هيمنة طرف على آخر ؛ ولكن بتسامح وتعايش، وبالاعتماد على ما يقرب ويلحم، والتخلي عما يبعد ويفرق. وذلكم بروح جديد نابع من الاطمئنان النفسي الذي لا تخفى أهميته في التعامل القائم على التعاون والهادف إليه.

وحتى يتم هذا التعاون بإيجاب، فإنه لا مناص من الإلحاح فيه على عنصر القيم الإنسانية التي تلتقي مع القيم السماوية التي دعا إليها الإسلام وبقية الديانات، والتي هي القادرة على التقريب المأمول بينها ؛ مع ضرورة التشبّع بما تلح عليه هذه القيم من توجّهات عقلية وعلمية زاد الفكر المعاصر في الحث عليها، لبعدها العالمي، ولما ينتج عنها من تطور فكري وتقدم صناعي وتجاري وغيره ؛ مع الإشارة إلى أن هذه التوجهات لم تكن غائبة عن المسلمين، حين كانوا يقيمون صرح الحضارة والثقافة أيام ازدهار وجودهم.

كما أنه لا مناص من النظر في كل هذا برؤية بعيدة للعلاقات بين المسلمين وغيرهم، حرصاً على هذه العلاقات كي تكون سوية، وحرصاً كذلك على حماية مستقبل الإنسانية من الدمار، بنشر مشاعر المحبة والأخوة المفضية إلى التسامح والتعايش، ونبذ أحاسيس الكره والبغض، وما تؤدي إليه من إثم وعدوان.

ولا إمكان لهذه الرؤية بدون إلغاء الحواجز التي تمنع المسلمين من الدخول إلى مجالات الإنتاج المفضي إلى التقدم ومواكبة التطورات الحديثة، في غير اقتصار على استهلاك هذا الإنتاج الذي يراد أن تبقى مفاتيحه بيد الغرب، على الرغم من الثروات التي تختزنها أقطارهم، والمواقع الاستراتيجية التي لهذه الأقطار ؛ إضافة إلى الطاقات البشرية التي تضطر إلى العمل في بلدان المهجر بأوروبا، مساهمة بفعالية فيما تُدركه هذه البلدان من رقي وتقدم.

وهو ما يستدعي فتح المزيد من المجالات لهذه الطاقات، وكذا تشجيع التوجه المعتدل الذي ظهر به كثير من علماء المسلمين ومفكريهم، والذي يهدف إلى إظهار الوجه الحقيقي للإسلام، وإتاحة الفرصة له كي يُسمع صوته في العالم الإسلامي، وحتى في بلدان الغرب التي هي في أمس الحاجة إلى المعرفة الصحيحة بالإسلام. ومن المؤكد أنها شديدة التطلع إلى ذلك، أملاً في أن يخفف من حدة التوتر القائم الآن.

والجدير بالتسجيل في هذا المقام، ما يلاحظ من رغبة حثيثة لدراسة الإسلام وتعلم مبادئه، ليس فقط في أوساط العوام أو عموم المثقفين، ولكن بصفة خاصة بين رجال الكنيسة الذين ظلوا لجهلهم يخاصمونه.

وذلكم ما يلاحظ حتى في توجه بعض القادة السياسيين من الأوروبيين والأمريكيين الذين أدركوا قيمة الإسـلام وأهمية حضور المسلمين في مختلف المجالات ؛ ولكنهم مع هذا الإدراك لا يخفون تخوفهم مما يقع من أحداث إرهابية، يعزونها ظلماً وعدواناً للإسلام والمسلمين الذين هم بدورهم في حاجة إلى معرفة حقيقية بدين الآخر.

ونود هنا أن نسجل بكثير من الأسف، أنه لشدة اهتمام المسيحيين من أوروبيين وأمريكيين بالإسلام واعتناق بعضهم له، أن قداسة بابا الفاتيكان وعدداً من أقطاب الكنيسة، وحتى بعض السياسيين والمفكرين، أخذوا يعربون عن تخوفهم من انتشار الإسلام في الغرب ويحذرون من ذلك. وبلغ الأمر ببعض الجهات المعنية بهذا الموضوع، أن طالبت بمنع الإسلام في بلادها ومعاقبة معتنقيه، ناسية أو متناسية أنه أحد الديانات السماوية وخاتمها المعترِف بها جميعاً.

هذا في وقت يتكرر الحديث في مختلف المنابر الشرقية والغربية عن الحوار، بدءاً من حوار الأديان، بناء على قواعد موضوعية ثابتة يتفق عليها، وسعياً إلى توضيح حقيقتها، والتقريب بينها والتعاون، في إطار من الاحترام المتبادل والتقدير اللازم، والرغبة في معرفة صحيحة عنها، بعيداً عن إثارة القضايا العقدية، كما سبق أن وضحنا ذلك، باعتبار العقيدة رباطاً للإنسان بخالقه الذي هو وحده المقدر له والمحاسب عليه ؛ ولاعتبار الاختلاف فيها سنة في الكون خاضعة لإرادة الله ومشيئته. وذلكم بعيداً عن أية فكرة مسبقة ينطلق منها كل أصحاب دين بأنهم وحدهم الذين على صواب، وبأن دينهم هو وحده الممسك بزمام الحقيقة المطلقة، وبأن المنتمين لدين آخر هم بالضرورة خصوم وأعداء. وهو ما يتطلب الابتعاد عن الفكرة الخاطئة التي تزعم تفوق حضارة الغرب وثقافته وابتكارهما لقيم جديدة لم تكن معروفة، والنظر إلى الآخر كمجرد مستهلك لا يد له فيها ولا لتراثه وحتى تراث الإنسانية.

وإذا كانت الحضارة تنشأ وتتطور بفعل مكوناتها المختلفة، مهما تكن صغيرة، فإن الحضارة الأوروبية الجديدة التي أدركت آفاقاً بعيدة من التقدم والتفوق في جميع الميادين، لا يمكنها أن تَستمر في نموها وازدهارها، وهي تتنكر للدور الذي كان من قبل للحضارة الإسلامية في إغنائها، أو تتجاهل ما يقدمه لها المسلمون اليوم، في محاولة لإعطاء صورة نمطية عنهم تزيد في الإلحاح على هذا التجاهل وذاك التنكر.

وإن أي موقف لغض الطرف عن هذا الدور، أو محاولة الحدّ من انطلاقه، لن يكون إلا إغفالاً لما للتنوع والتعدد من ثراء يغني إذا ما تسنت له أسباب الأخذ والعطاء، بتسامح وتعايش وتآزر وسعة أفق ؛ ومن ثم تمتين الروابط وتقوية العلاقات.

ولعلنا في غير حاجة إلى أن نؤكد أن تاريخ هذه الروابط والعلاقات وما ولَّد من حضارة وثقافة، كفيل ــ إن نحن جميعاً تأملناه ــ أن يعيد إلينا الثقة في نفوسنا جميعاً وفي إمكاناتنا كافة، لنفتح مساراً لتلكم الروابط والعلاقات يُتيح استمراراً للمشترك من الحضارة والثقافة، برؤى جديدة ومفاهيم متطورة ومقاصد موضوعية، وبوعي صحيح لقيمة هذا المشترك وقيمه، وبدون خلفيات سالبة لكل ما هو إيجابي في تاريخنا ؛ مع مراعاة واقع العولمة في إطار إيجابياتها، وما تتضمن من قيم لا تتنافى مع ما ندعو إليه جميعاً ــ مسلمين وأوروبيين ــ وما نتشبث به من خصوصيات هوياتنا، وما نتطلع إليه من حرية وديموقراطية وتعددية واحترام لحقوق الإنسان، وما يفضي ذلك كله إلى فتح العديد من فرص التعاون المثمر البناء.

إنَّ لدينا مجالات واسعة لتحقيق هذا التعاون الذي يسمح بالتغلب على التحدّيات، ويعين على نشر السلام، وييسر منح الحقوق التي من شأنها أن تعُلي مقام الإنسان من حيث هو، وتحله مكان التكريم الذي خص اللَّه به بني آدم، وتحفزه إلى مزيد من التواصل.

إنَّ الأساس الذي تقوم عليه الحضارة هو هذا التواصل المتجلّي في التفتح والتفاعل والتحالف والتكامل، بتعايش وتسامح، بعيداً عن أي تصارع أو تصادم. ومن ثم فإن الحضارة بطبيعتها إنسانية، وهي بذلك واحدة غير متعددة، وإن تعددت مراحل تطورها وحلقات سلسلتها عبر العصور والأجيال ؛ بما يقدم أهل كل مرحلة أو حلقة من ابتكار وإبداع وإنتاج، وما يؤمنون به من مبادئ وقيم، وما يخلفونه من تراث تصلح به أحوال الأفراد والمجتمعات، في اعتماد على التعارف المؤسَّس على الاعتراف بالآخر، والتعاون معه بالأخذ والعطاء.

ولتحقيق هذا كلِّه، بدءاً من المعرفة المنشودة بالأديان إلى ما يترتب عليها، فإننا نرى ضرورة أن يكون الحوار الحضاري والثقافي مفتوحاً باستمرار، وأن يكون فرصةً لإبراز الآراء المختلفة التي يبديها حول جميع القضايا المحاور عليها، مفكرون وعلماء ورجال السياسة والاقتصاد، وجامعيون ومنتمون لجمعيات المجتمع المدني والجهات اللاحكومية.

على أن هذا كلَّه لا يكفي لبلوغ الغايات المتوخاة، ما لم يُكمَّل بالسلوك الحسن الذي ينبغي أن يتوافر في مختلف الأطراف، والذي هو بالنسبة للمسلمين كفيل بتقديم صورة جلية وناصعة عن الإسلام. وتلكم مسؤولية لا شك أنهم جميعاً يتحملونها، ولا سيما منهم الذين يعيشون في الأقطار الأوروبية التي غدت بالنسبة إليهم، ميداناً واسعاً للتواصل والاحتكاك مع مواطنيها الأصليين.

وليس يخفى أن الوجود الإسلامي في هذه الأقطار تجاوز مفهوم الأقلية، وتحول إلى ظاهرة لا يمكن تصورها إلا في إطار المواطنة، باعتبار المسلمين فيها أصبحوا عبر أجيال ثلاثة أو أكثر، يشكلون جزءاً منها، وطرفاً مندمجاً فيها، ومقوماً لا مجال لإنكار دوره في النهوض بها وإغناء ثقافتها وحضارتها. وإذا ما تم الاعتراف بهذه الحقيقة وقبولها والعمل على تفعيلها بإيجاب، فإن مشاكل كثيرة ستجد لها المخرج الملائم. إلا أن ذلك يقتضي إيجاد حل للمعادلة الصعبة التي ينبغي معالجتها بالكثير من التدبر والأناة والمرونة، والتي يطالَب فيها المسلم الذي يقيم في أوروبا، أن يكون مواطناً في مجتمع علماني يدين له بالانتماء، وما يقتضي هذا الانتماء من ولاء، وأن يكون في الوقت نفسه مسلماً يمارس دينه بكل حرية، سواء بشكل فردي، أو في إطار جماعة تسهر على شؤون هذا الدين.

ولعل من أوليات هذه المعالجة، أن يراعى التوازن بين هذه الأطراف جميعاً، مع ضرورة وجود الثقة بينها، ومع اعتبار المصالح العليا للوطن، دون إغفال العلاقات الاجتماعية في جوانبها النفعية والمادية. وهو ما يشكك فيه بعض المتحاملين على المهاجرين. وهنا لا ينبغي أن ننسى أن واقع الزيجات المختلطة والأجيال المتعاقبة، يدل على أن هذه المواطنة ثابتة ومحققة على نحو سليم، رغم وجود حالات تشوب هذا الواقع. وهي شوائب قد يزول بعضها إذا ما خف التضييق على إجراءات التأشيرة والإقامة والشغل، وما إلى ذلك مما يعانيه الراغبون في الهجرة، أو المهاجرون الذين لم تستقر أوضاعهم بعد ؛ وكذا إذا تسنى للمهاجرين كافة أن يمارسوا شعـائر دينهم بحرية ؛ مثلما يتسنى للأوروبيين الذين بدأوا يهاجرون من بلدانهم إلى أقطار إسلامية، والمغرب بصفة خاصة حيث يقيمون ويتملكون ويشاركون المواطنين في كثير من مظاهر حياتهم. ولا إنكار أن هذه الحرية تحتاج بالنسبة للمسلمين، إلى أن تُحْمَى من التشدّد والغلو النابعين من الجهل، مما يتطلب مواصلة التوعية الصحيحة بالدين، والبحث عن حلول للقضايا والنوازل التي تصادفهم في مهاجرهم بفقهٍ جديد، إن لم أقل بفقهٍ خاص كثيراً ما وقع الحديث عنه وإطلاق اسم فقه الأقليات عليه.

وتلكم مسؤولية علماء الأمة الإسلامية الذين عليهم واجب متابعة واقع المسلمين في البلدان غير الإسلامية.

 



(1) العدد 25 (1429 = 2008م)