ضرورة الحوار و إمكانه

 

عباس الجراري

 

عرض قدم في افتتاح الندوة التي نظمتها جامعة الأخوين ومعهد راشي الجامعي بتعاون مع اليونسكو ، من 25 إلى 28 محرم 1421 هـ الموافق 30 أبريل إلى 3 مايو 2000 م، في جامعة الأخوين بإيفران

 

بسم الله الرحمن الرحيم،

الحمد لله رب العالمين ،

والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى جميع النبيئين والمرسلين.

 

صاحب السمـــــو،

أصحاب النيافة والفضيلة،

حضرات السيدات والسادة،

 

أود في البدء أن أعرب عن كبير سعادتي بالمشاركة في هذا اللقاء الأول الذي تعقده الجامعة المتنقلة للديانات السماوية ، بتنظيم من جامعة الأخوين ومعهد راشي الجامعي ، بتعاون مع اليونسكو ، والذي يتناول موضوع الحوار بين هذه الديانات ، باعتباره أمل أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام .

 

وسأحاول في هذه الكلمة القصيرة أن أتعرض لأهم جوانب الموضوع ، في تركيز على ثلاث نقط: أبدأها ببعض المعطيات عن تاريخ الحوار ، وأتبعها بمدى الحاجة إلى الحوار وكيف ينبغي أن يكون ، ثم أختم بعرض أبرز منطلقات الحوار وفق منظور الإسلام :

 

 

 

أ و لا : بعض المعطيات عن تاريخ الحوار
ثانيا :  مدى الحاجة إلى الحوار وكيف ينبغي أن يكون

ثالثـا :  منطلقات للحوار في الإسلام

 

أ و لا : بعض المعطيات عن تاريخ الحوار

1 ـ        إن الحوار بين المسلمين وأهل الكتاب دائم ومستمر ، لم يتوقف منذ العهد الإسلامي الأول إلى الآن ، وإن لم يسر على وتيرة إيجابية في كل العصور ، بسبب مواجهات ظرفية خارجة عن نطاق الديانات .

 

2 ـ        وقد تجلى الحوار في البيئات التي تساكن فيها المسلمون مع غيرهم من أصحاب الديانات السماوية الأخرى . وكانت الأندلس في ظل الحكم الإسلامي على رأس البلدان التي سادها جو التعايش والتسامح. وكذلك كانت بعض بلاد المشرق ، لا سيما القدس الشريف التي كانت أرضا خصبة لذلك ، ونتمنى أن تعود كما كانت . أما المغرب فقد اشتهر بمعاملته المثالية لأهل الكتاب ، ولا سيما اليهود ، سواء من هم مواطنون مغاربة في الأصل ، أو من هاجروا إليه واستوطنوه إثر المحن والأزمات التي تعرضوا لها في بعض البلاد.

 

3 ـ        وتمثل الحوار أيضا  فيما كان يروج من مناقشات دينية في المجالس العلمية ـ وحتى في المساجد ـ ؛ وكذا في بعض الكتابات على نحو ما كتب سعد بن منصور بن كمونة اليهودي في القرن 7 هـ عن " تنقيح الأبحاث للملل الثلاث : اليهودية ، المسيحية ، الإسلام "وهو مطبوع؛لكنه تحامل فيه على الإسلام . هذا بالإضافة إلى ما عرفه المسلمون أيام ازدهار علم الكلام ، وما كتبوه عن الملل والنحل .

 

4 ـ        أما في المرحلة الحديثة والمعاصرة ، فعلى الرغم من المعاناة الظرفية التي نأمل أن تزول وتزول أسبابها ، فقد اتخذت دول وهيآت كثيرة مبادرة إجراء الحوار وتنظيم لقاآت بشأنه سعدت بالمشاركة في بعضها.

ويكفي أن أشير منها إلى ما قام به الفاتيكان واليونسكو والمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بالمملكة الأردنية الهاشمية ، وكذا ما قامت به بعض المعاهد والجامعات، كمعهد قانون السلام والتنمية التابع لجامعة نيس الفرنسية .

 

ومن أبرز هذه المبادرات مشروع طرق الإيمان ، وكانت اليونيسكو قد تبنته باقتراح من المغرب ، وبتوجيه من الملك المغفور له جلالة الحسن الثاني رضوان الله عليه الذي رعى لقاء تأمليا عقد في الرباط يوم 16 فبراير 98 حول " الحوار بين الديانات الثلاث " ، انتهى بإعلان نص في آخره على الدعوة إلى " إنشاء منتدى للتفكير والعمل في المغرب يتكون من ممثلي الأديان التوحيدية الثلاثة ويسعى إلى تحديد أنشطة تستهدف فئات مختلفة وتعمل على تشجيع التفاهم المتبادل والسعي نحو ثقافة السلام " . وفي إطار هذه المبادرات يوضع لقاؤنا اليوم في رحاب جامعة الأخوين ، وبرعاية سامية من مولانا أمير المومنين جلالة الملك المعظم سيدي محمد السادس أدام الله عزه ونصره .

 

ثانيا :  مدى الحاجة إلى الحوار وكيف ينبغي أن يكون

1 -        إن الحوار يعتبر في المرحلة الراهنة ضرورة ووسيلة وغاية .

          ويقتضي :

          أ   – نسيان الفوارق الدينية .

          ب -  تجاوز الممارسات الخاطئة (وإن عانى المسلمون الكثير منها ، وما زالوا يعانون) .

          وينبغي أن يسعى إلى :

          أ  -   تحقيق المزيد من التفاهم والتعايش .

          ب -  تقوية الإيمان بالله في النفوس .

 

2 -يجب أن يتجاوز الحوار مجرد تبادل الأحاديث والآراء مما يتم عن بعد ، كما  يجب أن يتجسم في لقاآت يتحقق فيها الاحتكاك المباشر ، ويتحقق كذلك إلقاء مختلف وجهات النظر مهما تكن متعارضة ، لتستخرج منها المبادئ والقيم الموحدة.

 

3 -        ويمكن لهذا الحوار أن يسير في مراحل وعلى مستويات :

أ  - بين القائمين على مصالح المومنين في الديانات الثلاث . وقد بدأت هذه المرحلة فعلا باللقاء المتكرر بين جلالة الملك المنعم مولانا الحسن الثاني طيب الله ثراه وقداسة البابا . وهو اللقاء الذي جدده مولانا أمير المومنين جلالة الملك المعظم سيدي محمد السادس أيده الله في أوائل هذا الشهر لدا زيارته لحاضرة الفاتيكان .

ب - بين فقهاء هذه الديانات ، لتحديد مواطن الاتفاق والالتقاء ، وهي كثيرة وأساسية .

ج - بين الناشئة المتعلمة من خلال تلقين التعاليم الإلهية الموحدة، من غير مس بأية عقيدة ( وموقف الإسلام من هذه القضية سليم وواضح ) .

د  - بين المومنين ، أي على مستوى الرأي العام ( بواسطة أجهزة الإعلام) لإشاعة روح التسامح والحث على التعايش في أمن وسلام.

 

 4 – إن الكتب السماوية وأشكال التراث المتفرع عنها ، كلها غنية بالموضوعات الصالحة لتكون منطلقا للتأمل وتبادل الرأي حولها ، أي للحوار .

 

وإن هذه الموضوعات لتزيد غنى في مجال الحوار حين تعرض على بساط واقع الحياة المليء بالاضطرابات والتناقضات والصراعات والمشاكل ، سواء ما كان من هذا الواقع متصلا بالحياة اليومية للأفراد ، أو ما كان مرتبطا بقضايا كبرى تعانيها الإنسانية في كثير من بقاع الأرض .

 

وإن المسلمين واليهود والمسيحيين باعتبارهم مومنين ، يقدرون – من خلال التزامهم بعقيدتهم وقيمها – على مواجهة مشاكل العالم المعاصر وإيجاد حلول ملائمة لها وكذا التصدي لكل التحديات .

 

إنهم أصحاب رسالة إنسانية مشتركة ، عليهم أن يحملوها ويؤدوها في عالم تسوده فوضى ناتجة عن ضعف الدين في النفوس وعن شيوع الاتجاهات الإلحادية والعلمانية والتيارات العبثية اللامبالية .

 

وإن منطلقهم في هذه الرسالة أن ينقلوا القيم السماوية للأجيال . وعبر هذه القيم يتوصلون إلى إدراك معنى وجودهم وكنه ذاتهم ودورهم في الكون وما ينبغي أن تكون عليه علاقتهم مع الله وما تفرضه عليهم هذه العلاقة من واجبات.

 

5 – أما قاعدة الحوار ، فهي المتمثلة في المعادلة الآتية :

أ -  ما تريد أن يعرفه عنك الآخر ، فاعرفه أنت عنه ( والآخر هو من يومن بعقيدة غير عقيدتك) .

ب‌-                    ما تريد أن يفعله معك الآخر ، فافعله أنت معه.

 

6 - ان نقطة البدء في الحوار بين المسلمين واليهود والمسيحيين كامنة في فهم السماحة التي تتميز بها دياناتهم ، والتي تفضي إلى تسامح ينبغي أن يحث على تجاوز الأخطاء التي ارتكبت في الماضي لأسباب عارضة وما زالت للأسف ترتكب . ويمكن للحوار أن ينطلق في مجال الإيمان بالله والقيم السلوكية النابعة من هذا الإيمان لفهم حقيقة الدين .

وما يمكن أن يعتبر حقيقة أو حقائق كبرى لا يصح أن يقع اختلاف حوله ، وإن تباينت أساليب التعبير عنه .

وبقدر ما يكون التشبث بالإيمان والقيم قويا في النفوس ، تكون القدرة على إجراء الحوار وتعميقه والإفادة منه .

       وتتمثل هذه الإفادة في إمكان استيعاب ما عند الطرف الآخر مع ما يتطلبه هذا الاستيعاب من تجاوز الانغلاق على الذات في أنانية وانفرادية .

أما حين يكون التشبث ضعيفا أو لا يكون فإنه يقع ما يعوق إجراء الحوار ، فينتشر التعصب والجهل ، وينعدم الوعي بالحقائق ، وترتكب أخطاء قد تكون فادحة وذات عواقب وخيمة .

7 -        إن الحوار في أحسن أحواله ينبغي أن يوصل إلى تبادل الأخذ و العطاء، أي إلى التعلم من الآخر بعد قبول الاختلاف معه . وهو فيما دون ذلك ينبغي أن يترك الآخـر وشأنه ، لا يتدخل فيه ولا يناوشه أو يحرض عليه ، فضلا عن أن يقاومه أو يحاربه.

 

8 -        إن الحاجة إلى هذا الحوار تزيد في المرحلة المعاصرة ، بعد أن تقرر إجراؤه على مستوى عالمي ، بإعلان سنة 2001 سنة الأمم المتحدة للحوار بين الحضارات.

 

ثالثـا :  منطلقات للحوار في الإسلام

                  

          1- قبل الحديث عن هذه المنطلقات ، أنبه إلى أن القرآن الكريم وثيقة حوار تتجلى في أمور ، أبرزها اثنان :

الأول:  أنه يعرض الحوار الذي كان لله تعالى مع كثير من مخلوقاته ، وخاصة مع الملائكة، ومع الأنبياء والمرسلين ، ومع المومنين والمشركين ، وحتى مع إبليس .

الثاني:  أنه يتضمن معجما للغة الحوار بشتى مصطلحاته وصيغه وآدابه ومختلف آليات منهجيته .

  أما المنطلقات ، فيمكن إجمال أهمها في الآتي :

2 -  الإسلام دين الوسطية والاعتدال :" وكذلك جعلناكم أمة وسطا". سورة البقرة الآية 143

 

3 -      وهو دين المحبة والأخوة: " المومنون والمومنات بعضهم أولياء بعض"، سورة التوبة الآية 72 .

 4 -  إنه دين الحرية . و تكفي لإبرازها قولة عمر بن الخطاب " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟ " . وتصل هذه الحرية إلى الدين: " لا إكراه في الدين ". البقرة 256 .

 

5 -  من ثم فهو يدين التعصب كيفما كان ، ويدعو إلى التعارف: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ". الحجرات 13 .

 

6 –ويعتبر أن الاختلاف كامن في طبيعة الكون والخلق: " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ". هود 18،119 .

 

7 -يفرق في التعامل مع غير المسلمين بين الذين يقاتلون المسلمين والذين يسالمونهم: " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ". الممتحنة 8 – 9 .

 

 8-  وهو – لتسامحه – يبيح مصاهرة أهل الكتاب وأكل طعامهم: " اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المومنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم". المائدة 5 

 

9 -  بل إن الإسلام يحث على الإيمان بالكتب السماوية والرسل السابقين: " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمومنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ". البقرة 284 .

10 -  وينهى عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ويدعو إلى محاورتهم: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ". النحل 125 . " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ". العنكبوت 46.  ولعل هذا هو خير توجيه منهجي للحوار.

أشكر لكم حسن إنصاتكم

                     والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته                                                                                                                               عباس الجراري.