الـمــرأة

بيـن تكريــم الإسـلام
وسلـبـيـات الــواقــع

 

للدكتور عباس الجراري

 

عرض قدم لجامعة الصحوة الإسلامية التي نظمتها
وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
في دورتها الخامسة المنعقدة بالرباط

يومي الخميس والجمعة 8-9 رجب 1419ه الموافقين 29 30 أكتوبر 1998 م


ليس من شك في أن المرأة حظيت باهتمام كبير في المرحلة المعاصرة، نتيجة إدراك دورها الأساسي والحيوي في المجتمع. وليس من شك كذلك في أن هذا الاهتمام راجع أيضا إلى ما نالته المرأة من حقوق لم تكن تحظى بها من قبل عند كثير من الأمم والشعوب.

وفي هذا السياق، ولأمر لا تخلو دوافعه من معاداة ورغبة في الكيد، يلاحظ أن غير قليل من خصوم الإسلام ومعهم عدد من الجاهلين به حتى من المنتسبين إليه يتخذون موضوع المرأة مطية للنيل من الدين الحنيف وشرائعه، منادين بإنصافها وإعطائها حقوقها ومساواتها بالرجل وما يقتضي ذلك من إعادة النظر في المساطر والقوانين. وإن كل ذي رأي سديد يسعى إلى الصالح العام لا يمكنه إلا أن يحبذ كل محاولة للمراجعة والتصحيح، سواء بالنسبة لهذه القضية أو غيرها، شريطة أن يتم ذلك في نطاق الشريعة بما فيها من ثوابت لا مجال لمسها، ومتغيرات قابلة للتكيف مع الزمان والمكان.

وإذا كان المجال متسعا للتطوير والتجديد داخل هذه المتغيرات، فإن أية دعوة لمس الثوابت المحكمة بالنصوص تعد مسا بهذه النصوص وما تشكله من عقيدة وشرع، وهو ما يتطلب الكثير من الحيطة والحذر.

ولإدراك حقيقة مكانة المرأة في الإسلام، لا بد من استحضار النظرة التي كانت سابقة عليه، أو معاصرة له، وحتى لاحقة، عند كثير من المجتمعات، سواء منها العربية أو غيرها، ولا سيما الأوروبية.

فقد كانت بعض قبائل العرب في الجاهلية كبني تميم تئد البنات(1) مخافة العار، في حين كانت قبائل أخرى كخزاعة وكنانة تئدهن للاعتقاد بأن الملائكة بنات الله، وبأنه يلزم إلحاق البنات به.

كذلك كانت المرأة تعتبر عند كثير من العرب متاعا يورث كما يورث المال. وبذلك فإنها لا حق لها في الميراث، شأنها في ذلك كشأن الصبيان، بل لا حق لها حتى في أن تتزوج ما لم يرض و أرّثها بأن يأخذ مهرها، أو تفدي نفسها بمال تعطيه.

أما في أروبا، فإن المرأة كانت مجرد متاع يمكن التصرف فيه بالبيع والشراء، بل إنها كانت تعد محلوقا ناقصا لا روح له أو له روح حيوان، مما جعلها في هذا المنظور لا ترقى إلى بلوغ الحياة الآخرة. ووصل الأمر إلى حد إلجامها بقفل يوضع على فمها حتى لا يسمع لها صوت. وكانت باعتبارها رجسا تمنع من قراءة الكتاب المقدس.

ومن ثم طال الجدل حول إنسانيتها، ووقع الاتفاق على إثبات هذه الإنسانية ، على أن تعد من الرقيق، وعلى أن تكون تبعا لذلك في خدمة دائمة للرجل. وكذلك استمر وضع المرأة في غير قليل من البلاد الأوروبية حيث كانت محرومة من أدنى حقوق المواطنة.

وحين ظهرت الثورة الصناعية في هذه البلاد، بدأ تشغيل النساء والأطفال بأرخص الأثمان، ثم حدث بعد الحرب العالمية الأولى أن مات نحو عشرة ملايين من الشباب الأوروبي والأمريكي، مما خلف نساء بدون عائل كن مضطرات للعمل. وزادت حاجة المصانع إلى من يشتغل بأقل أجر، ففتحت الأبواب أمام النساء. ومن ثم بدأت المرأة تشعر بضياع حقوقها، وأخذت تطالب بهذه الحقوق. ووصل الأمر في بعض البلاد الراقية حتى الآن أن المرأة لا تتقاضى أجرا كالرجل، مهما يكن مستوى العمل الذي تؤديه. هذا في الوقت الذي فتحت لها أبواب التحلل والتفسخ على مصراعيها ، لتعود كما كانت من قبل مجرد أداة للعبث واللهو، ووسيلة للإغراء والإمتاع.

 

*         *          *

 

أمام هذا المنظور المسيء للمرأة، يحق التساؤل عن موقف الإسلام منها. وإن المتأمل في هذا الموقف لا يلبث أن يجده متجليا في جوانب كثيرة، كلها دالة على التكريم والاهتمام، هذه أهمها :

أولا :  خصها بسورتين في القرآن الكريم هما :

1)  سورة النساء.

2)  سورة مريم.

بالإضافة إلى سور أخرى تعنى بالمرأة، كسورة النور، والمجادلة، والممتحنة، والطلاق ، علما بأن الأحكام المتعلقة بها مبثوثة في سور أخرى كثيرة.

 

ثانيا : نظر إليها باعتبارها مخلوقا كالرجل لا يفضل أحدهما الآخر إلا بالتقوى ، منهما تتكون الأسرة التي هي الخلية الأولى للمجتمع ، وبدونها لا إمكان لإيجاد هذه الخلية. يقول تعالى :] يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم[(2). وبذلك أدان الإسلام وأد البنات، يقول عز وجل : ]وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون[(3) كما حرم اعتبارها متاعا تورث أو تمنع من الزواج. يقول سبحانه : ]يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن[(4).

 

ثالثا : جعل علاقة الرجل والمرأة في إطار حميمي عبر عنه الحق سبحانه بالسكون المرتبط بالمودة والرحمة، وما ينشأ عنهما من حب وعطف وحنو : ]ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون[(5). كما عبر عنه باللباس الذي يحمي ويستر : ]هن لباس لكم وأنتم لباس لهن[(6).

 

رابعا : أقام هذه العلاقة على أساس الزواج، في نطاق مفهوم صحيح، قننه بأحكام دقيقة راعى فيها عوامل إنسانية واجتماعية كثيرة، تلخص في اعتباره عهدا بين الزوجين وميثاقا وصفه الله بأنه غليظ :  ]وأخذن منكم ميثاقا غليظا(7)[. وهو ميثاق قائم على التساوي والتكافؤ بين الطرفين، وكذا على الرضى والقبول اللذين بهما تهدأ النفس وتطمئن وتسكن، ويزول طمعها ويذهب ما قد يساورها من وساوس. يقول رسول الله r: " لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن" قالوا : " يا رسول الله وكيف إذنها ؟ "أجاب صلوات الله وسلامه عليه : "أن تسكت"(8). وذكرت السيدة عائشة ض للرسول الكريم "إن البكر تستأمر فتستحيي فتسكت" فقال لها: " سكاتها إذنها" (9). وحتى تتحقق هذه العلاقة على نحو متين ودائم، دعا الإسلام الرجل أن يتخير المرأة الصالحة وفق توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول : "تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك(10).

 

ويقول كذلك : "لا تتزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تتزوجوهن لمالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمة سوداء ذات دين أفضل"(11).

إن تفضيل الإسلام لذات الدين يعني أشياء كثيرة، منها أن الرجل لن يتزوج المرأة طمعا في مالها أو جاهها، ولا تعلقا بجمال عارض قد يزول ذات يوم، والحياة الزوجية عمر ممتد. وحتى إذا لم يزل، وهو لا بد زائل مع الأيام، فإنه يصبح عند الرجل أمرا عاديا يألفه. ويعني كذلك أن الهدف من الزواج هو إقامة أسرة تؤسس على الفضيلة. ولهذا ألح رسول الله  rعلى عنصر الدين بالنسبة للزوج كذلك، كما في قوله : ]إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير[(12) وكررها ثلاث مرات.

إن التركيز على عنصر الدين في الزواج هو الذي يجعل من العلاقة الزوجية رباطا مقدسا قائما على الاقتناع وعلى القناعة أيضا. وهي كلها عوامل يتسنى بها الدوام والاستمرار.

وفي إطار هذا الميثاق دعا الإسلام إلى المعاملة الطيبة القائمة على المعروف، كما أحل الطلاق عند ما تتعذر العشرة الحسنة. يقول تعالى : ]فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف[(13). وفي هذا الطلاق وعلى عكس ما يروج بعض المغرضين يكمن جانب من حرية المرأة ومن كرامتها قبل ذلك ؛ إذ هو في المنظور الإسلامي حل لمشكل، ولا يكون اللجوء إليه إلا حين لا يبقى أي حل آخر. ولهذا يقول رسول الله r : "أبغض الحلال إلى الله الطلاق"(14). وقد جعل له الإسلام قوانين وأحكاما تضبطه.

خامسا : سوى بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، يقول عليه الصلاة والسلام : " إنما النساء شقائق الرجال"(15). وفي هذا الصدد الضابط للمساواة يقول عز وجل : ]ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة[(16). وقد شكلت هذه الدرجة التي هي في الحقيقة درجة تكليف لا تشريف، والتي أسيء فهمها عند كثيرين، ذريعة للطعن في هذه المساواة ؛ في حين شرحها القرآن الكريم في هذه الآية ]الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم(17)[. وهي تحدد أمرين يوضحان حقيقة التفضيل والقوامة :

 

1 مرد التفضيل إلى الطبيعة التكوينية للمرأة وما تتعرض له كل شهر، ثم ما تعانيه عند الحمل والوضع والإرضاع والتربية، وما إلى ذلك مما اعتبر في آيات كثيرة كرها، على نحو قوله عز وجل  ]حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا[(18). ويكفي لإبراز هذه الحقيقة أن أحد كبار الأطباء قال في ندوة علمية حضرتها، أن ربانة الطائرة لا يسمح لها بالقيادة أثناء عادتها الشهرية، بسبب ما يتعرض له جسمها ومزاجها من اضطراب. ولعل هنا يكمن تفسير الحديث الشريف الذي كثيرا ما يردد في هذا السياق بأن النساء" ناقصات عقل ودين"(19).

وليس يخفى أن المرأة بحكم تكوينها أكثر عاطفة من الرجل، وأميل إلى إعمال الحدس، بالإضافة إلى أنها تكون أثناء ما تتعرض له كل شهر معفاة من الفروض الدينية كما هو معروف. وهو ما يستفاد من بقية الحديث: " قلن : " وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله ؟ " قال : "أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل ؟ "قلن : "بلى " قال: " فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم ؟ "قلن : بلى " قال : " فذلك من نقصان دينها"(20).

على أن الإسلام خول للمرأة بحكم وضعها التكويني موقعا متفردا لا يبلغه الرجل، إذ هي بعد الحمل والوضع تمارس الأمومة التي تبوئها مكانة متميزة عبر عنها رسول الله r حين جاءه رجل فقال : "يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ " فأجابه : "أمك" وسأل الرجل مرة أخرى" ثم من؟ فرد  الر سول صلوات الله وسلامه عليه : "أمك" ثم استفسر الرجل ثالثة فكان الرد النبوي الكريم كذلك : "أمك". وحين سأل الرجل بعد ذلك قال الرسول الأعظم : "أبوك"(21). وجاء جاهمة السلمي إلى الرسول r وقال : "يا رسول الله أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك " فسأله النبي  r : " هل لك من أم ؟ قال : " نعم"فكان جواب النبي الكريم : "فالزمها فإن الجنة تحت رجليها"(22). ومعروف قوله عليه الصلاة والسلام : "الجنة تحت أقدام الأمهات"(23).

 

2 سبب القوامة راجع إلى أن الرجل مطالب في الإسلام بحمل أعباء الأسرة والنهوض بجميع التكاليف والنفقات، حتى ولو كانت الزوجة ذات مال. وخلف هذه المسؤولية الشرعية يكمن السر في أن]للذكر مثل حظ الأنثيين (24)[ عند قسمة الميراث، ومع ذلك، فإن ما يحدث اليوم في كثير من الأسر التي تساعد فيها الزوجة زوجها في الإنفاق شيء محمود. ولا شك أن المرأة في هذا الوضع تكون لها أموالها وممتلكاتها تتصرف فيها كما تشاء.وقد تكون شريكة لزوجها فيما يملكه، وهو أمر معروف كذلك وشائع.  وتجدر الإشارة إلى أنه في إطار مسؤولية الزوج وإلزام الإسلام له بالإنفاق، لايحق له أن يدفع الزكاة أو أية صدقة لزوجته. ولو دفعها لكان كمن يدفعها لنفسه. في حين أن الزوجة إذا كانت ذات مال وكان زوجها فقيرا، فإنها تعطيه. فقد جاءت زينب امرأة عبد الله بن مسعود- ومعها امرأة أخرى إلى الرسول  r وسألتاه : "أتجزئ الصدقة عنهما إلى أزواجهما ؟ "فأجابهما صلوات الله وسلامه عليه : "لهما أجران أجر القرابة وأجر الصدقة"(25) .

 

بهذا وغيره مما لا يتسع المجال لعرضه، يتضح أن الدرجة التي خص الله بها الرجل لا تمس بوضع المرأة، وهو وضع يزينه التكريم الذي أمر به النبي الكريم في أكثر من حديث، كقوله r : " استوصوا بالنساء خيرا"(26) وقوله كذلك : "لا يفرك مومن مومنة، إن كره منها خلقا رضي منها آخر"(27).

من خلال هذه الجوانب الخمسة تبرز المبادئ الكبرى التي جاء بها الإسلام لإعطاء المرأة حقوقها الإنسانية، وإحلالها المكانة اللائقة بها. وبذلك أتاح لها أن تتحمل رسالتها في الأسرة وأن تنهض بدورها في المجتمع :

 

أولا : تتحمل رسالتها في الأسرة، باعتبارها أما تحمل وتضع وترضع، وتكون الأجيال الصالحة إذا صلح أمرها، وتنشئ الأجيال الفاسدة إذا فسدت حالها، كما هو معروف.

 

ثانيا : تنهض بدور فعال في المجتمع بطريق مباشر يتمثل في ممارستها مختلف الأعمال التي يقوم بها الرجل.

 

والدليل على ذلك أن المرأة في الإسلام اضطلعت بمسؤوليات عديدة، في تدبير التجارة وفي مجال الجهاد، وفي شتى ميادين العلم والحياة، بدءا من عهد الرسول r، بما فيها ميدان السياسة التي يمثلها تقديم البيعة وفق ما سيأتي بعد. ويكفي أن نذكر أسماء بعض أمهات المومنين، كالسيدة خديجة ض في شؤون المال والتجارة، والسيدة عائشة ض في العلم ورواية الحديث عن رسول الله r؛ إضافة إلى أنها كانت على رأس الجيش في حرب الجمل.. واللائحة بعدهما طويلة قبل أن نصل إلى ما بلغته المرأة المسلمة في العهد الحاضر. وإن ما نشاهده في المغرب المعاصر وغيره من المجتمعات الإسلامية من اقتحام المرأة لمختلف ميادين العلم والعمل، لكاف للإقناع بمدى ما تتمتع به من حقوق وما تؤديه من واجبات.

هنا قد يأتي من يعترض محتجا بالحديث الشريف الذي يقول فيه النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه : "ما أفلح قوم يلي أمرهم امرأة". ومن غير أن ندخل في تفاصيل لا يتسع لها مجال هذا العرض، نكتفي بالقول بأن هذا حديث قال الفقهاء إن المقصود منه الولاية الكبرى أي الخلافة وإن اعتمد عليه الشافعية فلم يجيزوا تولية(28) المرأة القضاء.

والحقيقة أن المقصود منه يتضح من السياق الذي ورد فيه، والذي يربطه بما آلت إليه دولة الفرس حين تقوض أمرها، وغدت قيادتها إرثا لامرأة لا قبل لها بالحكم، إذ قال رسول الله r (29) : "من يلي أمر فارس ؟ "قالوا : " امرأة قال: "ما أفلح قوم يلي أمرهم امرأة ". ولو كان الإسلام رافضا تولية المرأة بإطلاق، لما جاء القرآن الكريم متحدثا عن بلقيس ملكة سبأ وما كان لها مع سليمان عليه السلام ومع قومها الذين وجهتهم بحكمة وذكاء وسداد إلى الإيمان بالله.

وفي مجال الحياة العامة، تعرض القرآن الكريم لبعض النساء اللائي كان لهن رأي وشخصية ودور، على نحو حديثه عن امرأة نوح وامرأة لوط اللتين كانتا على رأي مخالف لزوجيهما، إذ يقول سبحانه :  ]ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين[ (30) ؛ في وقت تحدث عن امرأة فرعون التي كانت على عكس زوجها مؤمنة، فقال عز من قائل : ] وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين[ (31).

 

*         *          *

 

وعلى الرغم من أن الإسلام بوأ المرأة هذه المكانة المرموقة التي تتمتع فيها بجميع الحقوق التي ما زالت النساء اليوم في بعض المجتمعات المتقدمة يطالبن بها، فإنه يتعرض للهجوم من الذين يبحثون عن أتفه الأسباب لبلبلة الأفكار وإشاعة الاضطراب بافتعال قضايا تثار لإظهار الإسلام على غيرحقيقته الوسطية المعتدلة ؛ مما يفسح المجال لتيار اتهام الدين ونبذه عند البعض، ولتيار التشدد والغلو عند آخرين.

وإن من أبرز هذه القضايا التي لا تدل على غير واقع يضغط بتخلفه الفكري والاجتماعي، ما يروج حول الحجاب الذي ثار الجدل حوله في كثير من البلدان، ولا سيما الأوربية. وهو جدل يقصد منه إلى ربط الاسلام بلباس معين يتخذ ذريعة بعد ذلك للطعن في الدين، باعتباره أداة عرقلة للمرأة ، أو مسا بما ينبغي أن يكون لها من حرية. وهذا رأي يجعل المرأة في بعض المجتمعات الإسلامية، تشعر بأن الحجاب مظهر لفكر متحجر، وعائق يمنع من التحرك الذي تتطلبه مقتضيات الحياة الاجتماعية المعاصرة. وهو شعورقد يحسه الرجل وربما المجتمع كله. في حين قد تشعر امرأة أخرى في البيئات نفسها، ومعها كذلك رجال آخرون ومجتمع بكامله، أن الحجاب إنما هو عنوان عفة وحياء، ورمز للتمسك بالفضيلة، لا ينقص شيئا من المرأة ولا يعوقها عن ممارسة أي عمل.

إن اللباس من حيث هو، سواء أكان خاصا بالمرأة أم الرجل، إنما هو مظهر حضاري اجتماعي خاضع للزمان والمكان، ومعرض للتغير حسب الظروف والأحوال. فما كان يلبسه الرسول r والصحابة ض ليس هو ما لبسه المسلمون على امتداد العصور، فكيف بما نلبسه اليوم ؟

ويكفي أن نذكر بالتطور الذي عرفه المغاربة خلال نصف القرن الأخير، سواء بالنسبة للرجل أو المرأة .فهي في مدينة الرباط على سبيل المثال كانت حتى سنوات الأربعين، ترتدي " الحايك" وتضمه على وجهها فيما كان يعرف بـ " التغنبيرة" أو "لعوينة" ، إذا لا تبدي غير عين واحدة ؛ بالإضافة إلى أن بعض النساء كن يزدن على ذلك  "اللثام " الذي كان يعرف كذلك بـ "النكاب" أي النقاب. ثم انتقلت المرأة إلى ارتداء الجلباب مع النقاب.

وكان هذا الانتقال في ركاب الوعي الجديد الذي ظهر في المغرب يومئذ، وما صاحبه من نهوض لتعليم الفتيات. وكان لا يخلو من صعوبة بسبب موقف الذين كانوا يرفضون أن تلبس المرأة الجلباب ، متشبهة بالرجال. ولم تلبث بعد ذلك أن تخلت عن هذا الجلباب للباس الجديد. ثم ظهرت العودة إليه عند البعض، وكأنه هو اللباس الصحيح ؛ وكان مرفوضا من قبل. ومثل هذا يقال حتى عن الرجال الذين لم يكن لباسهم يختلف عما يرتديه النساء، إذ كانوا ولا سيما منهم العلماء يرتدون ّالقفطانّ وفوقه " الفرجية" التي لم تكن تتميز عن "الدفينة" النسوية إلا في نوع قماشها ولونه الذي كان أبيض.

وتجدر الإشارة إلى أن اللباس الذي يرتديه الجنسان اليوم، والذي يوصف بأنه " رومي "أو "أروبي"، غدا عالميا ومنتشرا في معظم البلدان، ولم يعد بذلك متميزا بصفة معينة أو خاصا بمجتمع محدد. وعلى افتراض أنه "رومي" فإنه لا ضير منه ؛ فقد لبس رسول الله r "رداءا نجرانيا غليظ الحاشية"(32).

ولعلنا هنا أن نقرأ قول الله تعالى : ]قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق(33)[، وقوله كذلك من قبل : ] خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا[ (34)، وقول رسول الله r : " كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة"(35)، وقول ابن عباس " : كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطاتك اثنتان : سرف أو مخيلة"(36).

وإنه ليتضح من هذه التوجيهات أن الإسلام في نطاق الحرية الشخصية يحدد مقاييس تضبط اللباس وما قد يتولد عنه من سلوك يركز عليه القرآن الكريم في قوله عز وجل : ]قل للمومنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم، ذلك أزكى لهم، إن الله خبير بما يصنعون. وقل للمومنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أوأبنائهن أو أبناء بعولتهن أو اخوانهن أوبني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين  غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء، ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن. وتوبوا إلى الله جميعا أيه المومنون لعلكم تفلحون[ (37).

 

إن في هاتين الآيتين الكريمتين جملة تنبيهات أساسية، منها :

 

أولا : أن الأمر موجه للرجال والنساء معا، على عكس ما يتوهم البعض من أنه خاص بالنساء فقط.

 

ثانيا : أنه يحث على غض البصر، أي خفضه وعدم إرساله وإطالته للتحديق وتتبع ما هو محرم، مما قد يفضي إلى الاستفزاز والإثارة. وهذا لا يعني عدم النظر، وكأن المومنين مطالبون بأن تبقى رؤوسهم منحنية لا ينظرون إلا إلى أسفل، بدليل قوله تعالى ]من أبصارهم[. وهي صيغة تفيد التبعيض، أي بعض الغض. وقد قال رسول الله r لعي كرم الله وجهه : " لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى، وليس لك الثانية"(38) ويكفي بالنسبة لهذه النقطة أن نشير إلى أن الرسول r أباح للرجل أن ينظر إلى المرأة قبل خطبتها، إذ قال للمغيرة بن شعبه وقد خطب امرأة : "انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما ّ(39). وأتى رجل إلى النبي r يخبره بأنه خطب امرأة من الأنصار فسأله r : "أنظرت إليها ؟ " أجاب : "لا" قال صلوات الله وسلامه عليه : " فاذهب فانظر إليها فإنه في عين الأنصار شيئا"(40).

 

ثالثا : أن غض البصر يجعل المومنين والمومنات ينشغلون بما هو أزكى لهم، أي أطهر وأعف وأنفع ؛ مما هو مفيد من المحامد والفضائل والأعمال المجدية ؛ لأن المجتمع الإسلامي ليس مجتمع كبت وضغط ولا مجتمع مجون واستهتار، حتى يستبد موضوع الجنس باهتمام أفراده ؛ ولكنه مجتمع شريف يحفظ الأعراض، ويحث على العمل الجاد الذي يشترك فيه الرجل والمرأة على السواء.

 

رابعا : أن المقصود بقوله تعالى : ]إلا ما ظهر منها[ ما جعله الله مكشوفا بالفطرة والطبيعة. وهو ما لا يثير الناظر من خفايا الجسد ومكامن الإثارة. وهذا ما جعل الفقهاء يفتون كما عندنا في المذهب بأنه لا ضير على المرأة في أن تكشف وجهها وكفيها للعموم(41). وأجاز بعضهم الشعر والقدمين.

 

خامسا : أن المرأة لا ينبغي أن تبدي زينتها ومفاتنها وتجملها، سواء ما كان من ذلك طبيعيا أو مصطنعا، إلا في الحالة التي لا تكون فيها معرََّّّضة ومعرِّضة للفتنة، أي حين تكون مع أقاربها وذوي المحارم.

 

سادسا : أن قوله عز وجل : ]وليضربن بخمرهن على جيوبهن[ ينبغي أن يفهم في سياق معاني مفردات التعبير القرآني الكريم. فالخمر جمع خمار، وهو ما تضعه المرأة على رأسها، ويقابله ما يعرف عندنا بـ ّالسبنية ّ أو "الدرة" وما أصبح يطلق عليه تأثرا باللغة الفرنسية: "الإشارب". والجيوب جمع جيب، وهو فتحة القميص الكاشفة للعنق والصدر. وكانت النساء يضعن الخمار ويلقين به على الظهر فقط.

 

سابعا : ان قوله سبحانه : ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن يعني المشي بضرب الأقدام على الأرض، لإثارة انتباه الناس بالخلاخل التي اعتاد النساء في بلاد العرب وضعها في أرجلهن. ويدخل في ذلك كل ما يلفت النظر من عطر قوي أو ثوب شفاف أو لباس مكشوف أو ما إلى ذلك(42) ؛ لأن الإسلام يريد من المرأة أن تكون شقيقة الرجل في الحقوق والواجبات، وأن تكون بهذا عضوا فاعلا ونافعا ومثمرا في المجتمع، وليس لعبة أو دمية أو أداة لهو وغواية. ثم إن الرجل في المنظور الإسلامي ليس مجرد حيوان تثير شهوته وتغريه أبسط مظاهر الزينة في المرأة التي عليه من جانبه ان يراعي مشاعرها فلا يسرف في مظهره وزينته.

إن جماع هذه التنبيهات كامن في قول الله تعالى : يا بني آدم قر أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباسا التقوى، ذلك خير، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون (43).

لقد جعل لله اللباس على ثلاث درجات :

الأولى : لباس لستر العورة، وهو ما يعتبر ضروريا ولازما للإنسان، وينبغي أن يكون عاديا غير مثير ولا لافت للنظر.

 

الثانية : لباس التزيين والتجمل في المناسبات والأعياد، وهو المشبه بالريش، استعارة من ريش الطائر.

 

الثالثة : لباس التقوى الذي هو رداء العفة والورع والطهارة الروحية. ويعتبر أفضل ما يمكن أن يتحلى به الرجل والمرأة على السواء. ومتى تحليا به، زال كل تخوف عليهما وعلى المجتمع من الانحلال والانهيار.

 

إن القصد من هذا التوجيه الإسلامي في موضوع اللباس، مما هو مبثوث في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ليس هو التضييق على المرأة في لباسها أو خروجها للعمل إلى جانب الرجال كما قد يتوهم كثيرون وفيهم غير قليل من المغرضين ولكن القصد هو إشاعة آداب وأخلاق ينبغي أن يلتزم بها الجنسان معا، بعيدا عن الخلاعة والتبرج والتحلل والانحراف. وقديما قال الشاعر العربي عنترة متحدثا عن غض الطرف باعتباره من أبرز ملامح المروءة العربية:

 

وأغض طرفي إن بدت لي جارتي               حتى يواري جارتي مأواها

 

فهو إذا لقي جارته لا يمعن فيها النظر ويدققه في تتبع لها، ولكنه يخفض بصره إلى أن تدخل دارها. وذهب آخر إلى أن غض البصر ليس مجديا ما لم يصحبه غض عين القلب :

 

وإطراق طرف العين ليس بنافع         إذا كان طرف القلب ليس بمطرق

 

لقد ظلم الإسلام طوال عهود الانحطاط، فألصق به ما ليس منه، وارتبطت به مظاهر هي من قبيل العادات والتقاليد التي عرفتها بعض المجتمعات الإسلامية في هذه العهود، مما شاع أنه متصل بظاهرة "الحريم" التي أساءت إلى المرأة المسلمة وخلفت عادات وتقاليد هي بما تخفي خلف ستارها من فواحش وآثام أبعد ما تكون عن الإسلام، وان ألصقها به بعض الجاهلين أو المغرضين، وامتطوها للطعن فيه وفي موقفه من المرأة.

وفي إطار هذه الظاهرة وما خلفت من مواقف متضاربة بدا توجه متشدد لا يقتصر على اللباس وما يراه من ضرورة الحجاب فيه، ولكن يتجاوزه إلى المناداة بحجب صوت المرأة، باعتباره عورة لايجوز أن يصل إلى أسماع الرجال خشية الفتنة، بدليل أنها لا تؤذن ولا تجهر في الصلاة ولا ترفع صوتها بالتلبية في الحج، في حين أن الأمر ليس كذلك، وفق ما تدل عليه آيات قرآنية وأحاديث نبوية ومواقف لرسول الله ص وغير ذلك من متعلقات الدين.

وليس بخفى أن رسول الله r كان يحدث النساء وكن يحدثنه. وكان صلوات الله وسلامه عليه يتلقى أسئلة من اللائي كن يستفسرنه عن مسائل دينية أو غيرها فيجيبهن، على نحو ما جاء في بعض الأحاديث النبوية التي وردت في هذا العرض. ويكفي أن نشير إلى أنه ص تلقى بيعة النساء التي تحدث عنها القرآن الكريم في قوله سبحانه :   ] يا أيها النبيء إذا جاءك المومنات يبايعنك على ألا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا ياتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم[ (44).

ثم إن الرسولr  كان يستمع إلى الشواعر ينشدن فيتأثر لإنشادهن، على حد ما روي عنه أنه سمع قتيلة بنت الحارث تبكي أخاها النضر بن الحارث وقيل هو أبوها وكان من أسرى بدر، وأمر به الرسول r فقتل ؛ وهي تقول :

 

هل يسمعني النضر إن ناديــتــه           أم كيف يسمع ميت لا ينطـق

أمحمد يا خير ضنء كريـمـــــة           في قومها والفحل فحل معـرق

ما كان ضرك لو مننت وربمـــا           من الفتى وهو المغيظ المحنق

او كنـت قابـل فديـة فلنـأتـيـــــن           بأعـز مـا يغـلو لديـك وينــفـق

فالنضر أقرب من أسرت قرابة           وأحقهم إن كان عـتـق يعـتــق

 

فتأثر r  وقال : " لو بلغني هذا قبل قتله لمننت عليه"(45). ومن شديد تأثره بإنشاد هذا الشعر انه أمر بعدم قتل أسرى قريش.

 

وعلى نهج الرسول الكريم سار الصحابة والتابعون، مما يكفي فيه التلميح إلى الأحاديث النبوية الشريفة التي أخذها الرواة عن السيدة عائشة ض. ومعروف عنها أنها كانت مكثرة، إذ ذكر المحدثون إنها روت عن رسول الله r عشرا ومائتين ألفي حديث. وعنها روى صحابيون كثيرون، كأبي هريرة وأبي موسى الأشعري، وتابعيون كثيرون كذلك، كسعيد بن المسيب وعلقمة بن قيس وعائشة بنت طلحة التي كانت لها زميلات في التلمذة على أم المومنين، كعمرة بنت عبد الرحمان وحفصة بنت سيرين. ولا يخفى في هذا الصدد انه شاع بين الناس حديث : "خذوا شطر دينكم عن الحميراء"(46).

إن صوت المرأة في حد ذاته ليس بعورة. وهو ليس كذلك حتى إن أدت غناء، شريطة ألا يكون في هذا الغناء ما يمس الحياء او يخدش الأخلاق أو يقود إلى المنكر، وألا يكون في طريقة الأداء تفسخ وتحلل أو ميعة وتهتك. فقد قالت الربيع بنت معوذ زوج إياس بن البكير الليثي(47): " جاء رسول r الله فدخل علي صبيحة بني بي فجلس على فراشي كمجلسك مني فجعلت جويريات يضربن بدف لهن ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر، إلى أن قالت إحداهن : وفينا نبي يعلم ما في غد. فقال لها r : دعي هذا وقولي الذي كنت تقولين"(48) .

هذا وقد نبه الحق سبحانه إلى حديث النساء كيف ينبغي أن يكون مع الرجال، فقال مخاطبا أمهات المومنين :  ]يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن، فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا[ (49). وهو خطاب موجه إلى أمهات المومنين وعبرهم إلى النساء عامة كي لا يتحدثن إلى الرجال بكلام فيه لين ورقة ولطافة، حتى لا يظن من توجهن إليهم هذا الكلام أنهن يتقربن إليهم ويتحببن ؛ لا سيما إن كان هؤلاء من قليلي الإيمان وسيئ الأخلاق. وهو في نفس الوقت دال على أن محادثة المرأة للرجال مباحة إذا كانت في إطار جاد ومتزن. يؤكد هذا قوله تعالى : ]وقلن قولا معروفا[ أي قولا في نطاق المتعارف عليه، مما لا يمس الكرامة أو يخدش العرض. وقد يفهم منه كذلك أنه عز وجل يدعوهن إلى أن يأمرن بالمعروف وينهين عن المنكر. وان ما أدركته المرأة اليوم في شتى المجتمعات الإسلامية من تعليم بوأها مراكز عالية في الجامعات والمستشفيات والإدارات، لمما يحث على تجنب أي موقف من شانه أن يوصم بالتزمت والتخلف أو حرمان المرأة من حقوقها الإنسانية مهما تكن صغيرة أو كبيرة، أو الحيلولة دون أداء رسالتها في الحياة.

 

*         *          *

 

إن إثارة قضية الحجاب وما إليه من موضوعات جانبية تزعم في قصدها الدفاع عن حقوق المرأة وكرامتها، لا يفضي إلى غير صرف المهتمين، بل صرف المجتمع كله عن القضايا الأساسية التي تحتاج إلى أن يقع الانكباب عليها لما فيه تطوره ورقيه، ولما يتطلع إليه من مواكبة العصر ومستجداته والمشاركة في إبداعها وتقديمها، انطلاقا من الأصالة الحق القائمة على روح الدين الصافي وقيمه الثابتة، ومقوماته المبنية على مبدأ التغيير والتجديد والإنصاف المكرم للجنسين.

إنه لاشك أن المرأة اليوم تشكو في العديد من الحالات حرمانها من حقوق أساسية، بل هي تعاني كذلك سوء المعاملة وقسوتها من المجتمع على العموم، ومن ا لرجل على الخصوص. وهي ظاهرة لا يمكن أن تجد تعليلها بعيدا عن السبب التربوي والسلوك الاجتماعي ؛ بما يتحكم في هذا السلوك من رواسب عادات وتقاليد كانت وليدة معطيات ثقافية وحضارية خلفت أمزجة وعقليات ما زال للأسف شيء من آثارها في بعض الأذهان.

ولعل في هذا تفسيرا لكثير من الظلم المادي والنفسي الذي تقاسيه بعض النساء، وكذا تفسيرا لغير قليل من الحيف الذي يعانينه في قضاياهن بالمحاكم ؛ على الرغم من جودة النصوص في الغالب وصحة المساطر التي لو طبقت على نحو سليم لأنصف أولئك النساء في مشكلاتهم.

على انه لا ينبغي الظن بان هذه الظاهرة لا تمس سوى المجتمعات الإسلامية. فما يمارس على المرأة من الرجل في كثير من البلاد الغربية المتقدمة، ليزيد في بعض جوانبه على ما تشكوه المرأة في بلاد الإسلام ؛ مما يدل على أن المسألة وليدة أمزجة وعقليات وما ينشأ عنها من عقد ومركبات قد توجد في كل مجتمع. وقد تتجلى ليس فقط عند الرجل، ولكن حتى عند المرأة التي لا تخلو معاملتها له من تصرفات سيئة، كعدم الثقة فيه واللجوء إلى الشعوذة وما إليها من أنماط سلوكية سلبية لا تلبث أن تخلف ردود فعل شنيعة تعود عليها بالضرر.

ومع ذلك، فإن انتشار التربية والتعليم في المجتمع الإسلامي وما صاحبه من تعميم الثقافة عبر مختلف وسائل الإعلام، أنتجا وعيا جديدا عند الرجل والمرأة بحقيقة الحياة ومسؤوليتها والحاجة الملحة إلى أن يتحملا جميعا أداء الرسالة، في تعاون على الأعباء، بما فيها الأعباء المادية التي أصبحت الزوجة اليوم تشارك فيها بسهم وافر ونصيب كبير، إن لم تكن هي التي تنهض بها وحدها في بعض الزيجات.

وإذا كان هذا الأسلوب الجديد من الحياة الأسرية يأخذ في الذيوع، فإنه يحتاج إلى أن يحصن بدعائم تربوية إسلامية، ويحتاج كذلك إلى أن يضبط بأحكام حتى لا يكون وسيلة لتخلي الرجل عن مسؤولياته، وسبيلا لإثقال كاهل المرأة وإرهاقه بالمزيد من التحملات.

وإن هذا التحصين للعلاقة بين الجنسين وضبطها، لما به تستقيم الحياة الفردية والجماعية، في نظام يحفظ للمجتمع توازنه، ولا سيما للأجيال الصاعدة منه، لمما يتطلب مراجعة الذات، وإعادة النظر في السلوك الخاص والعام، وكذا في بعض النصوص التشريعية إن اقتضى الحال كمسطرة الطلاق والحضانة في مدونة الأحوال الشخصية المغربية على أن يتم ذلك في نطاق الشريعة الإسلامية ووفق ما تدعو إليه من تكريم للإنسان من حيث هو، ذكرا كان أو أنثى، وتمتيعه بحقوق إن حرم منها فإنه لن يستطيع القيام بواجباته وأداء الأمانة الملقاة عليه.



(1) أي تدفنهن حيات

(2) سورة الحجرات الآية 13.

(3) سورة النحل الآيتان 58-59.

(4) سورة النساء الآية 19.

(5) سورة الروم الآية 21.

(6) سورة البقرة الآية 187.

(7) سورة النساء الآية 21. ومعنى "غليظ" أنه كبير وملزم

(8) أخرجه البخاري عن أبي هريرة، والاستثمار أن يطلب رأيها وتستشار.

(9) رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنسائي والدارمي عن أبي هريرة.

(10) أخرجه البخاري والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة.

(11) رواه ابن ماجة عن ابن عمر.

(12) أخرجه الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة.

(13) سورة البقرة الآية 231.

(14) رواه أبو داود والبيهقي والحاكم عن ابن عمر.

(15) رواه ابن حنبل وأبو داور والترمذي والدارمي عن السيدة عائشة رضي الله عنها.

(16) سورة البقرة الآية 228.

(17) سورة النساء الآية 34.

(18) سورة الاحقاف الآية 15.

(19) أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري، كما رواه غيره.

(20) يأخذ الحديث الشريف اتجاها آخر، إذا أعطى لكلمة "العقل" معنى الدية، إذا كانت العدة أن يوتى بالإبل التي تعطي في الدية فتعقل أي تربط بفناء ولي المقتول. ثم أصبحت الدية بعد ذلك تقوم بالذهب والفضة. ومعروف في الفقه آن دية المرأة في النفس على النصف، بالقياس إلى دية الرجل باتفاق. أما في غير النفس كالجراح والأعضاء ففي المذاهب اختلاف تكفي فيه الإشارة إلى أن مالكا يرى ما يراه فقهاء المدينة من أن ديتها تساوي دية الرجل حتى تبلغ ثلث الدية الكاملة، فإذا زادت عليه رجعت إلى نصف دية الرجل، وواضح أن مسألة الدية تنسجم مع قسمه الميراث وارتباطها بالقوامة التي سيتناولها العرض بعد.

(21) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.

(22) أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجة والحكم من حديث جاهمة.

(23) رواه الخطيب في جامعه والقضاعي في مسنده عن أنس مرفوعا

(24) سورة النساء الآية 11.

(25) رواه البخاري ومسلم عن ابي هريرة.

(26) أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.

(27) رواه مسلم عن أبي هريرة (لا يفرك : لا يبغض).

(28) وهو غير ما هو معمول به في المغرب، بدليل تولي كثير من القاضيات مشهود لهم بالعدل والنزاهة علما بأن الطبري أجاز توليه المرأة بإطلاق، وأن أبا حنيفة حصر هذا الجواز في قضاء الأموال، في حين يتجه الجمهور إلى اعتبار الذكورة شرطا في الحكم. هذا وقد قاس الفقهاء على الإمامة الكبرى فلم يقولوا بإمامة المرأة لصلاة الجماعة، وإن أجاز الشافعي إمامتها للنساء. وهو جواز مروي كذلك عن مالك وفق ما نقل الباجي عن ابن أيمن، اعتمادا على ما رواه أبو داود من حديث أم ورقة أن رسول الله rكان يزورها في بيتها وجعل لها مؤذنا يؤذن لها وأمرها أن تؤم أهل دارها".

(29) رواه احمد في مسنده عن أبي بكرة وكذلك رواه البخاري والترمذي والنسائي.

(30) سورة التحريم الآية 10.

(31) نفسها الآية 11.

(32) كما في الحديث الذي رواه البخاري وابن ماجة وغيرهما عن أنس بن مالك صاحب رسول الله r وخادمه.

(33) سورة الأعراف الآية 32.

(34) نفسها الآية 31.

(35) رواه أحمد والنسائي عن ابن عمرو بن العاص. والمخيلة هي العجب والكبر.

(36) كما في البخاري

(37) سورة النور الآيتان 30-31.

(38) رواه الترمذي عن علي.

(39) أخرجه أبو داود والترمذي عن المغيرة.

(40) رواه مسلم عن أبي هريرة. والمقصود النظر إلى ما يقنع بخطبتها. وقد يصل الأمر- كما عند الأوزاعي وابن حزم إلى الجسد كله ما عدا السوأتين. وفي الحديث الذي رواه أبو داود عن جابر أن رسول الله r قال : "إذا خطب أحدكم امرأة فإن استطاع أن ينظر إلي ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل".

(41) اعتمادا على بعض الأحاديث النبوية الشريفة، كالحديث الذي رواه أبو داود عن السيدة عائشة ض، أن أسماء بنت أبي بكر الصديق ض دخلت على رسول الله r وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها النبي r وقال : " يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح لها أن تبدي منها إلا هذا وهذا "وأشار إلى وجهه وكفيه.

(42) مما يذكر بتبرج الجاهلية الذي نهى عنه القرآن الكريم في الآية 33 من سورة الأحزاب : ]ولا تبرجن تبرج الجاهلية[. ومعروف أن التبرج يرتبط بمظاهر متعددة، منها ان تكون النساء كاسيات عاريات مميلات مائلات ّ كما في الحديث النبوي الشريف الذي رواه مسلم عن أبي هريرة. وقد روي كذلك في الموطا ومسند ابن حنبل. والتبرج غير السفور الذي يجعل المرأة تكشف عن المباح من جسمها.

(43) سورة الأعراف الآية 26.

(44) سورة الممتحتنة الآية 12. وهي آية همت بعض النساء المومنات الائي كن يردن الهجرة من مكة إلى المدينة، وكان الرسول r يمتحنهن بها، على ما روت السيدة عائشة ض في الحديث الوارد في صحيح البخاري ومسلم. وكان النبي الكريم يجري هذه البيعة على نساء الانصار كذلك، بل كان يجريها حتى على غيرهن. ويبدو ان العمل بالآية استمر حتى بعد أن تحقق فتح مكة إذ تحكي السيرة النبوية أنه r جلس على الصفا يوم ثاني الفتح وأخذ البيعة من المومنين والمومنات.

(45) سيرة ابن هشام ج 2 ص 42-43.  وقد اسلمت قتيلة بعد ذلك، وهي تعد من راويات حديث رسول الله r.

(46) "أو ثلث دينكم". وعلى الرغم من أن سند هذا الحديث واه إلا معناه صحيح. والحميراء وهو لقب السيدة عائشة تصغير حمراء بمعنى بيضاء، وكانت العرب تسمي الأبيض أحمر.

(47) صحابية جليلة بايعت رسول r الله بيعة الرضوان وحضرت غزواته. وكان rكثيرا ما يزورها في بيتخغا ليتوضأ ويصلي أو ليتناول الطعام.

(48) رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن الربيع. وتستفاد منه إباحة التغني بالأمجاد الدينية والوطنية، على الرغم من المواقف المختلفة من الغناء، انطلافا من قوله تعالى في الآية 5 من سورة لقمان : ومن الناس من سشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها حزؤا أولئك لهم عذاب مهين . وهي آية نزلت في النضر بن الحارث الذي كان له مجلس فيه قينات يسقين ويغنين. فكان إذان سمع بشخص يميل إلى الإسلام أو يريد الدخول فيه دعاه إلى هذا المجلس مدعيا أن ما يقدم له فيه من خمر وغناء خو خير مما يدعو إليه النبي الكريم. وأخرج الطبراني عن عبد الله بن مسعود أنه قال حين سئل عن هذه الآية : "والله الذي لا إلاه إلا هو- وكررها ثلاثا إنما هو الغناء والمزامر. هذا ولا تخفى مواقف المذاهب الفقهية في هذا الصدد، فالأحناف والحنابلة يحرمون والشافعية والمالكية يرون الكراهة. والسبب في حقيقة الأمر ليس مرده إلى الغناء في حد ذاته، ولكن لما يجر إليه من فواحش ومنكرات إذا وقع الانحراف به.

(49) سورة الأحزاب الآية 32.